من هو ابو عبيدة..؟ الصوت الصادق في زمن الصور الكاذبة
جو 24 :
في عصر يلهث فيه الجميع وراء الشهرة، جاءت النجومية الكاملة إلى رجل ملثم لم يطلبها ولا يُظهر من وجهه إلا عينيه. رجل لا يستطيع أن ينافسه أحد في شعبيته بطول العالم العربي اليوم، رغم أن أحدا لا يعرف وجهه الحقيقي وربما لن نعرفه إطلاقا، باستثناء أفراد قليلين للغاية من قادة المقاومة في غزة. ولعل الرجل يمر بالفعل بين الناس في القطاع بوجهه دون أن يتعرف عليه أحد، مثله مثل الأبطال الخارقين في الأفلام الذين يرتدون في المساء بزات وأقنعة تُخفي هوياتهم ويحاربون أشرار المدينة، دون أن يرى الناس وجوههم الحقيقية، لكنهم يرون أثرهم فقط.
إنه الملثم أبو عبيدة، الناطق الرسمي الإعلامي باسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الذي باتت قطاعات واسعة من الشعوب العربية ترى فيه ناطقا باسمها هي أيضا، إذ صعد نجم الرجل صعودا صاروخيا وصار انتظار خطاباته طقسا أساسيا في البلاد العربية، مع ارتباط عاطفي واضح به، تحوَّل معه إلى الأيقونة الأشهر للحرب الجارية التي بدأت بعملية "طوفان الأقصى"، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في مصر صُنِعَت لأبي عبيدة أغانٍ شعبية، وفي عمَّان يتوقف الشباب في الصالات الرياضية عن أداء التمارين لمتابعة خطاباته وتنشر المساجد ما يقوله بمكبرات الصوت، وفي البِقاع بلبنان تضمنت أسئلة الامتحانات في المدارس اسمه، وانتشرت صورة في شوارع بيروت وقد كُتب عليها "الناطق باسم الأمة"، بينما يتنافس الأطفال في الجزائر على تأدية دوره في مسرحياتهم وألعابهم، وحتى في تركيا صار تقليد أبي عبيدة لعبةً للأطفال فضلا عن تعليق صوره في بعض المقاهي. وقد انتشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال صغار من مختلف البلاد العربية وهم يتابعون خطاباته أو يقلدونه، وكذلك صور أخرى لعجائز يقفون بإجلال رغم مرضهم وهم يُشاهدون خطابه احتراما له.
حضر أبو عبيدة في الثقافة الشعبية والأغاني العربية بداية من معركة "سيف القدس" عام 2021، لكن المكانة الاستثنائية واسعة النطاق التي يتمتع بها اليوم بالتزامن مع معركة "طوفان الأقصى" تُعَدُّ تطوُّرا لافتا. فلم يعُد أبو عبيدة مع تلك الحرب مجرد ناطق إعلامي باسم القسام للحديث عن تطوّرات الأحداث وأداء المقاومة من ورائه فحسب، وإنما بات الارتباط به أشبه بالارتباط بقائد مُلهم في بلاد لم تختر قادتها بإرادتها منذ زمن طويل.
تاريخ رجل أسَر قلوب العرب
يظن الكثيرون أن أبا عبيدة ظهر لأول مرة على الشاشة عام 2006، حين أعلن للجمهور العربي خبرَ أسْرِ كتائب القسام للجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، ولكن الواقع أن الرجل عُيِّن في منصب المتحدث باسم القسام في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005. وقتها، ظهر أبو عبيدة في فيلم قديم صوَّرته قناة الجزيرة عام 2005 ولكن تأخر بثه إلى عام 2014 بعنوان "كتائب القسام في ضيافة البندقية للمرة الأولى"، فأطلَّ بقناعه وهو في بداية مسيرته قبل أن يصبح عَلَما معروفا لكل الجماهير العربية. وقد بَدَت في الفيلم سِمات خطاب أبي عبيدة التي رافقته لسنوات طويلة بعد ذلك، وساهمت في شعبيته الجارفة اليوم، وأهمها الدقة، فالهدف الأول من حديثه كان التأريخ الدقيق للعمليات التي قامت بها الكتائب باستخدام الأنفاق مع ذكر الأرقام والتواريخ بدقة بالغة.
يتضح ذلك حين سأله الصحفي عن عدد الذين شاركوا في العمليات، توقف أبو عبيدة للحظات ثم قال دعني لا أحصي عددا، وحين أعاد الصحافي التساؤل عما إن كانوا عشرات أم مئات، أجاب أبو عبيدة بأنهم "عشرات"، مُفضِّلا الدقة على المبالغة في تضخيم عدد المشاركين. سرعان ما أصبح ذلك مفتاح تواصل أبي عبيدة مع الجماهير العربية، فحرصه على احترام الجمهور العربي وتقديم المعلومات الدقيقة الموجزة قدر الإمكان، بات له بالغ الأثر في بناء المصداقية بينه وبين الشارع العربي.
كانت البداية الحقيقية لقصة أبي عبيدة مع الشارع العربي في يونيو/حزيران 2006، حين أعلن عن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية "الوهم المُتبدِّد"، التي أدت إلى قتل جنديَّيْن من جيش الاحتلال، وجرح اثنين، وأسْرِ الجندي جلعاد شاليط. وقد جاء خطاب أبي عبيدة بعد أيام من المقطع المُصوَّر الذي أبكى العَرَب للطفلة هدى التي أخذت تجري بين جثث عائلتها وتنادي "يا بابا يا بابا" على إثر المجزرة التي ارتكبتها دولة الاحتلال في شاطئ منطقة بيت لاهيا، واستشهد على إثرها الأب "عيسى غالية" وزوجته "رئيسة" وأبناؤهم الخمسة. ومن ثمَّ أتى صوت أبي عبيدة الحازم مُعلِنا عن نجاح عملية المقاومة للرد على الاحتلال، ليكون أشبه بعناق مواساة وإعلان صريح عن أن الكرامة العربية لم تمُت، وكأن خطابه يقول: "للبيت ربٌّ وللطفل أب" كما جاء على لسان الشاعر المصريّ أمل دنقل.
لا نعرف معلومات وافرة دقيقة عن حقيقة أبي عبيدة، وبخلاف القائد العام لكتائب القسام "محمد ضيف"، المطلوب الأول بالنسبة لإسرائيل، لا تتوفر حتى صور قديمة للرجل في بداية حياته. فحين ظهر أبو عبيدة في البداية وبدأت شعبيته تتسع، تجاهلته إسرائيل، لكنه أصبح مع مرور السنوات واحدا من أهم المواضيع التي تتناولها البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، وصارت كل خطاباته تُترجَم سريعا في وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي، ومع تزايد اهتمامها بشخصيته الصاعدة باعتباره أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لديها بسبب الحرب الإعلامية والنفسية التي يقودها، بدأت تل أبيب تنسج روايتها عنه وادَّعت أنها تعرف اسمه وصورته، كما قالت أكثر من مرة في أعوام 2008 و2012 و2014 أنها قَصَفت منزله.
تذكر الرواية الإسرائيلية أيضا أن أبا عبيدة ينحدر من قرية "نِعْلِيا" التي احتلتها إسرائيل عام 1948، وأن أسرته نزحت بعد النكبة إلى منطقة جباليا شمال شرقي غزة. وقالت الصحافة الإسرائيلية عام 2014 إن الرجل إلى جانب عمله القيادي في القسام يستكمل دراساته الأكاديمية في جامعة غزة، إذ يكتب رسالة الدكتوراة خاصته بعد أن ناقش رسالة الماجستير في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية تحت عنوان "الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام". وكلها تفاصيل لم تثبت صحتها ودقتها من أي طرف فلسطيني موثوق، وربما تكون جانبا من محاولة الإعلام الإسرائيلي لنسج روايات مفادها معرفتهم بهويته دون إثبات على ذلك.
منذ عام 2005 تُولِي المقاومة الفلسطينية أهمية متزايدة للدور الإعلامي، وقد اهتمت القسام منذ وقت مبكر بإنشاء دائرة الإعلام العسكري وقطعت أشواطا كبيرة في هذا الصدد، سواء بتطوير المحتوى وصياغته، أو بالتطوُّر التقني وتصوير العمليات العسكرية وغير ذلك. وقد اختار إعلام القسام العسكري منذ البداية أن تكون سماته هي الدقة والمباشرة والإيجاز. وهذا ما جعل ظهور الناطق العسكري أبي عبيدة أمرا منتظرا من الجماهير العربية، لأنهم لا يشعرون أنه يخرج إلا حين تقتضي الحاجة بذلك.
بيد أنه لا يمكن تفسير الشعبية الجارفة التي حصل عليها أبو عبيدة هذا العام بمهارات التواصل التي يمتلكها وحدها. حيث جيَّش "طوفان الأقصى" مشاعر الشارع العربي حتى فاضت وأرادت مَصَبًّا لها، ولذا انتظرت الجماهير "رسولا" ينقل أشواقها للمقاومين وينقل لها أخبارهم وانتصاراتهم على الأرض. فلمَّا وجدوا أبا عبيدة ناقلا أنباء مقاومي المُحتلين اعتبروه رمز المقاومة دون أن يعرفوا شخصه مباشرة، واعتبروا حبه وتكريمه حبا وتكريما للمقاومين.
لكن الأمر لا يقف عند الارتباط بوسيلة اتصال مع المقاومة، فقد استطاع أبو عبيدة أن يلعب دورا فاعلا على المستوى الإعلامي يتجاوز مجرد نقل رسائل القسام. فإذا ما تتابعت الأخبار السيئة حول جرائم الاحتلال في غزة، يَصِف الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي أبا عبيدة بأنه "مُهدِّئ عصبي"، إذ هو قادر على امتصاص القلق وبث الأمل في الناس دون أن يدَّعي أخبارا وهمية أو مُفبرَكة. ورغم صعوبة الموقف تحت نيران الاحتلال، فإن أبا عبيدة يأخذ في الاعتبار دائما كيفية التعامل النفسي بكلماته مع المستمعين العرب، مازجا بين الشحنة العاطفية واللغة الرصينة. ولربما يكون هذا أحد المفاتيح المهمة لفهم العلاقة الاستثنائية التي تشكَّلت بين المُلثَّم والشارع، إنه الاحترام المكون من شقين، أولهما الحرص على المشاعر، وثانيهما الصدق.
لطالما اعتاد العرب في العقود الماضية على خطابات زعمائهم المطولة، التي لا تخلو من دعاية لا تدعمها الحقائق. أما أبو عبيدة، فله طريقة أخرى في مخاطبة مشاهده العربي، فهو واقعي تماما في حديثه ولا يميل إلى المبالغة. على سبيل المثال، وفي حوار له عام 2012 تحدث أبو عبيدة بوضوح عن ضعف قدرات المقاومة العسكرية مقارنة بقدرات جيش الاحتلال، لكنه تحدث كذلك عن الصعوبة الكبيرة التي تفرضها طبيعة البيئة الجغرافية لغزة، بوصفها بيئة تُشكِّل تحديا لجيش الاحتلال الذي يهدف إلى تطويع المقاومة عسكريا. ومن جهة أخرى، فإن خطابات أبي عبيدة موجزة ولا تتعدَّى عشر دقائق.
وعادة ما تشتمل خطابات الرجل، الذي يُوصَف بأنه رأس حربة الحرب النفسية على دولة الاحتلال، على تثقيف موضوعي بمجريات المعركة، ورسائل بلاغية دقيقة الصياغة للأطراف المختلفة، ولا تخلو كلماته أيضا من الرسائل ذات الطابع الساخر، وأشهرها حين قال: "إلى زعماء وحكام أمتنا العربية، نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشك ودباباتكم لا سمح الله، ولا أن تدافعوا عن أقدس مقدساتكم التي تنتهك فيها الحرمات من قبل شذاذ الآفاق". حتى أصبحت لفظة "لا سمح الله" منتشرة بطول مواقع التواصل وعرضها ومضربا للمثل في سياقات التخاذل.
أما أخيرا، والأهم من كل ذلك كما يقول محللون، فإن أبا عبيدة لا يكذب على المواطن العربي كما اعتادت خطابات الزعماء، فعلى مدار مسيرته في التحدُّث باسم القسام قبل "طوفان الأقصى"، نادرا ما ذكر أبو عبيدة معلومة افتقدت للدقة، حتى بات بعض المعلقين الإسرائيليين على مواقع التواصل الاجتماعي يشيرون إلى أنهم يثقون بخطابات أبي عبيدة أكثر من خطابات جيشهم. وبذلك، بات "الملثم" وسيط العالم لمعرفة مواقف المقاومة في غزة ومجريات المعركة، سواء في إسرائيل، أو العالم العربي الذي بات فيه الوسيط المباشر، سواء عبر خطاباته المتلفزة التي تُنشر عادة على قناة الأقصى التابعة لحركة حماس، أو عبر قناته على تطبيق تلغرام، كما أن خطاباته لا تلبث إلا أن تُبث سريعا على القنوات الفضائية المختلفة مباشرة عقب صدورها.
(الجزيرة - محمد عزت)