jo24_banner
jo24_banner

لبنان بين مشروع الوطن وحلّ الدولتين

داود ابراهيم
جو 24 :
 


من فيليب حبيب ودين براون إلى جان إيف لودريان ومن سيعقبه مستقبلاً، كان المسار الذي سلكه لبنان ليوصله إلى هذا المصير الذي كان من بنات افكار هنري كيسنجر الذي رحل بالأمس القريب. فوزير الخارجية الأميركي الذي تبنّى المشروع الإسرائيلي قلباً وقالباً وغطّى برنامجه النووي ومدّه بالسلاح والذخائر، عمل جاهداً لحلّ لتصفية القضية الفلسطينية عبر إيجاد وطن بديل للفلسطينيين وخطر له أن يكون لبنان. ومنذ تاريخه وحتى اليوم لم يُسمح للبنان بالنهوض أو بامتلاك القوة التي تحميه من أن يكون مطروحاً على الطاولة لا أن يكون مشاركا في صياغة ما عليها.

كثيرة هي المراجع ولا سيما الغربية منها، التي تحدثت عن دور كيسنجر في الشأن اللبناني، كما أنّ الأرشيف الأميركي الذي رفعت السرية عنه أورد الكثير من التفاصيل حول دور ثعلب السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وكلّ ما يتّصل بالصراع العربي الإسرائيلي. ولأنّ الإدارات تعمل وفق برامج عمل وخطط طويلة الأمد استمرت واشنطن باعتماد التصوّر نفسه للتعامل مع لبنان. هذه البقعة الجغرافية تصلح لإيجاد حلّ لمشاكل المنطقة التي كان استيلاد إسرائيل فيها هو أصل المشاكل، وبدلاً من حلّ أصل المشكلة كان لا بد من زعزعة كلّ منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي للتوصل إلى استقرار تكون إسرائيل أساسه، ويكون لبنان الأضحية.

قد تكون وفاة الرجل في هذا التوقيت بالذات وفي منزله في ولاية كونيتيكت قد وقعت نتيجة صدمته لرؤية ما انتهت إليه حال إسرائيل من ضياع وهوان، رغم كلّ ما وفّرته لها واشنطن من دعم وحماية وتسهيلات ليس آخرها الممر الاقتصادي الهندي إلى أوروبا مروراً بمرافئها وعبر الأراضي العربية. كلّ هذا الجهد والعمل على مدى سنوات طويلة وتمويل مالي هائل لتعزيز الاستيطان وحمايته وتوفير كل ما يلزمه من محفزات وأدوات ترغيب وتشجيع على الهجرة اليهودية إلى "أرض الميعاد" تحول إلى كابوس ذات ليلة من تشرين. هل كان كيسنجر بوعيه وهو يتابع أخبار فشل الجدار العنصري العازل وتطورات عملية "طوفان الأقصى"؟ كيف كان وقع أخبار نزوح سكّان مستوطنات الشمال عند الحدود مع جنوب لبنان هرباً من صواريخ "حزب الله"؟ هل تذكّر أيام النكبة والنكسة ونزوح الفلسطينيين وتهجيرهم وكيف تحولوا إلى لاجئين حول العالم؟ هل صُدم لأخبار حركة الهجرة اليهودية المعاكسة والتظاهرات المتضامنة مع فلسطين قبالة البيت الأبيض وفي لندن وعد بلفور وفي المدن الألمانية التي تركها وأهله وهاجروا إلى أميركا حين كان طفلاً؟ هل مر بخاطره أن إسرائيل لن تبلغ من العمر ما بلغه وإنها إلى زوال؟ وهل تذكّر هذه الوطن الصغير الذي اسمه لبنان، والذي لم ينجح في تفكيكه وتوزيعه كمكاسب على القوى المجاورة، بحيث يكون الحل الذي اشتهاه فإذا به يتمرّد على كل المخطّطات رغم ضعفه وانقساماته وحروبه الداخلية وانهياره المالي والاقتصادي؟ أسئلة لن نعرف إجابتها تماماً كتلك الرسالة الموجهة إليه من عميد الكتلة الوطنية الراحل ريمون إده عبر صفحات جريدة النهار في 12 حزيران 1976، وتتحدث عن دوره في خراب لبنان.

ولأنّ ما حلّ بلبنان، كان نتيجة ما حلّ بالدّولة الفلسطينية، التي لم تمنحها سلطة الانتداب استقلالها وتبرّعت بها إلى إسرائيل، ولا يزال بانتظار ما ستنتهي إليه مفاعيل الحرب الإسرائيلية على غزة منذ إعلان دولة إسرائيل. يتوقف المراقبون عند ما قاله لودريان في ختام زيارته للبنان "المنطقة مقبلة بعد غزة على تغييرات يتمنّى لو يكون لبنان معنياً على طاولة النقاش وطرفاً يتم الاتفاق معه وليس عليه". هذه هي خلاصة عمر هذا الوطن الذي حرص المجتمع الدولي ولاسيما من يدّعي صداقته في الغرب أن يكون غير قادر على عرقلة مشاريع إعادة "ترتيب" المنطقة بما يحفظ أمن إسرائيل.

وممّا انتهت إليه زيارة لودريان انتهت مفاعيل الهدنة الإنسانية في غزة، فكيف يُنتظر من فرانكنشتاين هذا الوحش الذي تم تجميع أطرافه من أصقاع الأرض تصنيعه كقاتل محترف أن يتوقف عن سفك الدماء. وها هي آلة الحرب تستأنف نشاطها كمنجل يحصد سنابل قمح الطفولة في غزة. ها هو فرانكشتاين يعود من جديد ليعلن نفسه القاتل الأول الذي حصد أكبر عدد من الضحايا.

وها هو لبنان الذي "احتفل" باستقلاله أخيراً يتأرجح بين مشروع الوطن وحلّ الدولتين للقضية الفلسطينية، والعالم ينظر إليه ويمنعه من حلّ مسألة النزوح على أرضه وكأن التوطين أصبح أمراً واقعاً. ويحضر السؤال ولو همساً: إلى أين سيذهب أهل غزة؟


* الكاتب رئيس تحرير موقع الصفا نيوز)

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news