كرسيّ الرّئاسة بين ذهب سركيس وصندوق سلامة
حملت السبائك الذهبية حاكم مصرف لبنان الأسبق الياس سركيس إلى كرسي رئاسة الجمهورية، فيما حمل الصندوق الأسود الحاكم السابق رياض سلامة إلى كرسي الاتهام. كما يغري موقع قيادة الجيش شاغليه بإمكان الوصول إلى القصر الجمهوري، كذلك الأمر بالنسبة إلى حاكمية مصرف لبنان. وقبل أن تقع الواقعة ذات تشرين من العام 2019، وما حصل من انهيار مالي واقتصادي ضرب البلاد، كان الحبر يسيل في مديح سلامة لتأكيد أحقيته في الترشّح للرئاسة في مواجهة المرشح العسكري قائد الجيش جوزيف عون.
صحيح أن موقع قيادة الجيش أتى بالعدد الأكبر من الرؤساء، إلّا أن هذا الأمر لم يحجب ما أنجزه الحاكم الياس سركيس قبل أن يصبح رئيساً. سركيس الذي راكم ثروة من الذهب لمصلحة لبنان تُقدّر، اليوم، بحسب بعض الخبراء، بنحو 23 مليار دولار، ابتاع الرجل لمصلحة الخزينة نحو 9 ملايين و200 ألف أونصة من الذهب مراكماً ثروة تقدّر بـ 286 طناً.
كانت صورة سركيس هي التي أراد الحاكم الخامس لمصرف لبنان أن يظهر بها، ولكنه لم يترك من إنجازات حقيقية سوى صورته على طابع بريدي، وخلال تسلّمه الجوائز السنوية لأفضل حاكم مصرف مركزي، فيما كانت البلاد ترزح تحت دين يتعاظم، وتعاني فساداً ينخر أساساتها. أدار الرجل دفة البلاد مالياً، فإذا بلبنان يواجه أزمة غير مسبوقة في العالم. طارت ودائع الناس في المصارف، انهارت قيمة العملة الوطنية بعدما بُذلت الثروات من أجل تثبيت سعر صرفها، تخلّف لبنان عن سداد فوائد الديون، فما بالك بالديون نفسها. انتهى زمن الجوائز ومقالات التبجيل وغلافات المجلّات والأعداد الخاصة، ولم يبقَ في خانة المدافعين عن الحاكم إلا قلّة، ولا بد من أن تكلفة وفائهم له غالية.
من سلامة العقل ألّا تأمن لتوقيف سلامة أو محاكمته، هذه هي الحكمة التي خرج بها كلّ من تابع ما آل إليه حضور الحاكم السابق إلى مكتب النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار من دون محامٍ انتهاءً بتوقيفه وإحالته على النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، الذي ادّعى عليه بجرائم اختلاس الأموال العامة والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، وأحاله على قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي.
لا بد من الإقرار بوجود خلل يقع بين الإهمال وسوء الأمانة، بين الإهدار والاختلاس، بين تبييض الأموال واستغلال النفوذ وتضارب المصالح.
يحلو للبعض في لبنان أن يتحدث عن رفع المظلة الدولية عن الأشخاص الذين يتم الكشف عن ارتكاباتهم، ويبدأ الحديث عن قطب مخفية أو تبييض صفحة أو إيجاد تخريجة لمسألة عالقة. ويصبح أي إنجاز موضوع مؤامرة وتسويات دولية. فهل تكون إطاحة سلامة مشروعاً متكاملاً يحمل في طيّاته حلاًّ لأزمة الشرق الأوسط، أو أنّ ما جرى لا يعدو كونه محاولة لتبرئة الرجل محلّياً من خلال القضاء والإعلان عن عدم كفاية الأدلة، ومن ثم تمييع القضايا الدولية المرفوعة ضده في غير مكان.
سلامة كان ضابطاً في حرب، على حد تعبير رئيس السلطة التنفيذية نجيب ميقاتي. فما هي هذه الحرب؟ وما هي أهدافها؟ ومن تولّى منصب القيادة فيها؟ لم يحصل الانهيار المالي في لبنان في لحظة مفاجئة. بل كان نتيجة مسار توقّع له الكثيرون أن ينتهي إلى ما انتهى إليه. فهل تتحمل القيادة المسؤولية عما وصلت إليه الحال؟ هل كان سلامة فعلاً مجرد ضابط، أو كان يتمتع بصلاحيات القيادة، وهو حامل لقب "الحاكم"؟ أياً كان الجواب أو الدور، فلا بد من الإقرار بوجود خلل يقع بين الإهمال وسوء الأمانة، بين الإهدار والاختلاس، بين تبييض الأموال واستغلال النفوذ وتضارب المصالح.
وحده الوصول إلى الصندوق الأسود الذي يتضمن تفاصيل رحلة سلامة منذ تولى منصب حاكم مصرف لبنان في الأول من آب 1993 إلى نهاية تموز 2023، وحده يمكن أن يميط اللثام عن كلّ ما كان يحصل خلف الأبواب المغلقة. لائحة أسماء شركات وأشخاص استفادوا من خدمات تحت عنوان استشارات، لائحة بكبار المقترضين الذين سددوا ديوناً بملايين الدولارات بعد الانهيار المالي بالليرة اللبنانية، أو على سعر صرف الدولار الذي أبقاه الحاكم على الـ 1500 ليرة لبنانية فيما كان سعره في السوق قد بلغ حافة المئة ألف ليرة. مع العلم أن تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على "الألف وخمسة" استنزف الخزينة استنزافاً غير منطقي، والدليل أن سعر الصرف انتهى عند أول خضة إلى ما انتهى إليه.
صندوق سلامة الأسود لا بد أنّ فيه سجلات كل التحويلات المالية التي حصلت في وقت كان ممنوعاً على المواطن العادي أن يسحب ليرة من حسابه. هل نكون أمام عملية سحب أسماء من الصندوق بفعل استفاقة حقيقية على أهمية المحاسبة لاستعادة الثقة المحلية والعالمية بنظامنا المصرفي والقضائي؟ أم هناك من بدأ يخطط لكيفية إخراج الأرنب من القبعة وينهي الساحر المستتر عرض الخفة هذا بتصفيق الحاضرين على تقاسم قالب الحلوى.
لن يكون بمقدور الحاكم أن يقول بعد اليوم إنّ الليرة بخير. فهو نفسه ليس بخير، خصوصاً أنّه يكاد يُصبح محاكَماً أمام القضاء وهو المحكوم والمدان من قبل أكثرية شعبية فقدت ثقتها بكل هندساته المالية وألعابه البهلوانية في سدة الحاكمية.
من صورة الرئيس سركيس الحاكم الذي ترك للبنان خزائن ملأى ذهباً إلى صورة المرشح الرئاسي الحاكم إدمون نعيم الذي تمرد على الفساد وتصدّى له وبقي متحصّناً خلف أكياس الرمل في مكتبه رغم محاولة كسر هيبته من أجل صفقة من هنا وأخرى من هناك، نجدنا، اليوم، أمام صورة رياض سلامة الموقوف، والمدان شعبياً، والمتهم قضائياً بجرائم متعددة.
كم تغيّر الزمن!