تراجع مستوى التعليم في الاردن: المشكلة وخطوات الحل
د. محمود المساد
جو 24 :
تراجع مستوى التعليم الأردني وفقاً لما كشفته الاختبارات الدولية ( بيسا و بيرلز) التي صدرت هذا العام 2023. و( تقويم جودة التعليم وغيرها من التقويمات والاختبارات الدولية) التي سبق وأن نشرت نتائجها قبل هذا العام بقليل. كما كشفت الكثير من الدراسات والبحوث والتقارير عن هذا الواقع الذي تبين بوضوح "أن التعليم الأردني تراجع كثيراً، وأنه وصل لمستويات تنذر بكارثة ". وهذه حقيقة مضامين ما دار بعدة اجتماعات أيضا عقدتها لجنة التعليم في مجلس النواب، وتعرضت لها الكثير من المنتديات والمراكز البحثية كان آخرها المنتدى العالمي للوسَطية، وحضر بعض هذه الجلسات ممثلون عن وزارة التربية والتعليم، وبعضها الآخر ممثلون عن المركز الوطني لتطوير المناهج . ولكن في هذا التقرير لن نأخذ بهذا التقويم المحلي كي لا نُتّهم بالتحيز إلا إذا جاء مؤيدا من باب التعزيز للتقويم الدولي المحايد في إجراءاته التي يتبعها في دراساته واختباراته، ونتائجه وصولاً إلى التصنيف والمقارنة بين نظم التربية والتعليم في دول المقارنة جميعها.
توصيف المشكلة
صدر في هذا العام 2023 في شهر أيار نتائج اختبار "بيرلز" للقراءة الذي انعقد في عام 2021 عن الجهة المشرفة عليه، وهي مركز الدراسة الدولية في كلية بوسطن، بالتعاون مع الجمعية الدولية لتقويم الإنجاز التعليمي ومقرها أمستردام، كما صدرت مؤخرا في هذا الشهر كانون الأول 2023 نتائج اختبار بيسا الذي انعقد في عام 2022 بعد تأخره سنة واحدة؛ نتيجة جائحة كورونا، وكلا الاختبارين كشف عن تراجع كبيرعن الدورة السابقة لكل منهما، حيث كانت الدورة السابقة لاختبار بيرلز في عام 2016،واختبار بيسا عام 2018. ولكي نعرض المشكلة بوضوح لا بدّ من الإشارة إلى الإطار الأوسع الذي مهّد لخلق مشكلة تراجع التعليم الذي ننظرها اليوم على النحو الآتي:
من الواضح أن الاهتمام بالنظام التربوي قد تراجع على سلّم أولويات الدولة الأردنية، وأن الإنسان الأردني لم يعد أغلى ما نملك، ولا أنه رأس المال البشري، بدليل أن التخطيط لعمليات التحديث السياسي والاقتصادي وحتى الإداري قد سبقت جميعها عمليات تحديث النظام التربوي المأمولة في واقع الفعل.... حتى اليوم.
وأن مكوّنات النظام التربوي الرسمية ( وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الأوقاف والمقدسات الإسلامية، ووزارة الثقافة، ومؤسسات الإعلام )، وغيرها من مؤسسات غير رسمية لها إسهامات مباشرة، أو غير مباشرة في إعداد الإنسان وتمكينه من العيش مستقبلاً بنجاح وتفاعل مع محيطه تأثرا وتأثيرا، وما زالت تعمل جميعها على شاكلة جُزُر معزولة عن بعضها، مع أن المتلقي لخدماتها واحد وهو الطالب المتعلم.
ومن أجل توصيف المشكلة وتوضيح جوهرها، ومستوى تعقيدها، وبيان درجة صعوبة الخروج منها نعرض للآتي :
1 - تهدف الاختبارات الدولية إلى الكشف عن مستوى إنجازات الطلبة من المعارف، والمهارات القائمة على التفكير عبر مستوياته المختلفة، بوصفها هدف التعليم الرئيس. إلا أن المشكلة تكمن في هدف التعليم الأردني في واقع الحال الذي يسعى إلى تمكين الطلبة من حفظ المحتوى التعليمي غير المقصود في الاختبارات الدولية، وكأن الطريق الذي نسلك في تعليمنا الأردني لا يقود إلى تحقيق المطلوب من أسئلة الاختبارات الدولية.
2 - ويزيد في عمق المشكلة، ما كشفته بيوت الخبرة العالمية (المنتدى الاقتصادي العالمي، دافوس) عن مستوى فجوة التعليم في الأردن، والتي بلغت ( 7,7 سنة )، وهذا يعني أن الطالب الأردني الذي أنهى 12 سنة على مقاعد الدراسة حصّل من المعارف والمهارات ما يعادل نهاية الصف الثامن. وهذا يعني أن المطلوب من الطلبة في اختبار بيسا في العلوم، والرياضيات، والقرائية في الدول المتقدمة في الصف السابع ( 15 سنة )، يطلب من الطالب الأردني الذي لا يملك من المعارف والمهارات إلا ما يعادل صف خامس.
3 - وما يزيد من عمق المشكلة أيضا ما كشفته نتائج اختبار " بيرلز " عن ترتيب الأردن في القراءة لطلبة الصف الرابع، وهو ما يسمى " فقر التعلم " والذي يعني فيما إذا كان " الطالب يستطيع أن يقرأ فقرة أوعدة جمل ويفهمها "، حيث تبين أن نسبة فقر التعلم لطلبة الأردن هي 52% - قبل كورونا وبعده -، وتبين أيضا في نتائج الاختبارالتي صدرت في شهر أيار من هذا العام 2023 أننا تراجعنا أكثر بكثير لدرجة أننا أصبحنا في ذيل قائمة دول المقارنة بنسبة قد تزيد عن 57%. وهذا يجعل من الطالب الذي لا يُحسِن القراءة أن لا يفهم المطلوب من الأسئلة في العلوم، والرياضيات، وغيرها من المواد المكتوبة باللغة العربية.
4 - تُعَدّ التصنيفات العالمية لجودة التعليم من أهم الإحصاءات التي تحدد مدى تقدم الدول، حيث يعدّ التعليم أحد أهم الركائز الأساسية التي تعتمد عليها كل دولة من أجل المضيّ قدُمًا،. ويتوافر في العالم عدة تقويمات تصنيفية خاصة بالتعليم، وقد اعتمد في هذه الدراسة مؤشردافوس لجودة التعليم لعام 2023. ويعدّ مؤشر دافوس العالمي هو أحد الإحصاءات الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس والتي تستخدم مقياسا لجودة التعليم في مختلف الدول على المستوى العالمي. ويشارك الأردن في تقويم جودة التعليم معظم دول العالم استنادا إلى جملة من المعايير التي تكوّن مفهوم الجودة شكلا ومضمونا، فقد لمسنا أن واقع التعليم في الأردن قبل جائحة كورونا، وفي أثنائها، وما بعدها لم يختلف كثيرا في المؤشرات العامة الدالة على مستواه، وتبين لنا أننا لم نكن قبلها بخير، ولم نكن خلالها بوضع يستوعبها ويتكيف معها، وإنما كانت مرحلة كورونا كاشفة لواقع التعليم المتراجع، ولم نستطع حتى الآن ( 2023 ) أن نضع البرامج والمشاريع الفاعلة لتحسين الوضع القائم، وإن تم وضعها من أي جهة أخرى فإننا لا نُحسِن إدارتها ومتابعتها، وتحقيق أهدافها بالدرجة التي خطِّط لها. وجاءت نتائج هذا التقويم مُحرِجةً جدا للأردن ونظامها التعليمي، حيث احتلت الترتيب الخامس عربيّا، والترتيب 45 عالميّا، الأمر الذي كرّس تراجعها المستمر على معايير التقويم جميعها.
مقترحات الحلول الاستراتيجية
يتطلب التوجّه الجاد نحو إعادة الألق للنظام التربوي تقوية حاضنته الاجتماعية التي يشعر معها المشتغلون في هذا النظام بالاحترام، والتقدير، والهيبة، ورفع شأن الرسالة والمهنة التي يقوم عليها إعداد الإنسان الأردني، وتقوية الدولة وإنجازها للرفاه الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي والإسهام الحضاري، وذلك عن طريق البناء التشريعي الداعم، واستثمار قوة دوافع الآباء نحو تعليم أبنائهم، ولزوم عودة النظام التربوي لموقعه المتصدر بين دول الإقليم. وعليه، نقترح خطة إجرائية للنهوض بإعداد الإنسان الأردني وتمكينه من المعارف والمهارات والقيم التي تجعل من أفراد المجتمع كافة، بعد تنفيذ الخطة بنجاح، في مصاف مجتمعات الدول المتقدمة، وهي على النحو الآتي:
أولا – الاعتراف بمشكلة تراجع نواتج التعليم، والتعبيرعن الرغبة في حلها عن طريق حوار وطني يجمع المؤسسات الرسمية والخاصة كافة.على أن يسبق المؤتمر جملة دراسات، وعدد من مقترحات الحلول من أجل الخروج بتوافق حول خطة استراتيجية للحل محدّدة ماليا،وزمنيا، مع توزيع الأدوار،وخطة المساءلة.
ثانيا - تشريب جميع المشتغلين بالنظام التربوي، وإقناعهم بأن الهدف من النظام التربوي في المملكة هو إعداد الإنسان/ المتعلم وتمكينه الطالب/ الطالبة، ما يضمن نجاحه في الحاضر والمستقبل، وبالتحديد شخصيته المتكاملة المتوازنة، وتمكّنه من مهارات الحياة الضامنة لنجاحه حاضرا ومستقبلا، وتشرّبه لمنظومة القيَم المرغوبة محليا ودوليا،ومتابعته للحداثة في المعرفة إنتاجا ونشرا، وتوظيفه مهارات التكنولوجيا المتجددة وثورة الاتصالات العالمية، وتبنّيه العميق لقيَم الانتماء والولاء للدولة وأهدافها الاستراتيجية. وبغير ذلك نكون قد أخطأنا الطريق كما نفعل نحن، حيث أدرنا نظرنا نحو المحتوى التعليمي غير المهم وكرّسنا الجهود الفائقة من أجل حفظه وتفريغه في أوراق الاختبارات، وهجرنا المتعلم الذي قامت جميع مؤسسات النظام من أجل إعداده وتمكينه.
ثالثا – تضمين الخطوط العريضه لجميع ما يلزم لتحقيق هدف التعليم الأساس/ المتعلم الإنسان، بوثيقة قد نسميها قانون النظام التربوي، اشتقاقا من رؤية الدولة، ورسالتها، وأهدافها الاستراتيجية، وقيمها المرغوبة، وتطلعاتها المستقبلية الضامنة لقوتها وازدهارها.على أن يتم الالتزام بها والمساءلة على أي تجاوز لبند من بنودها.
رابعا – تشكيل مجلس للنظام التربوي كاملا، يرأسه نائب متفرغ لرئيس الوزراء، ويكون نصف أعضائه على الأقل من كبار خبراء التربية، وعلوم بناء الإنسان، على أن تنصب جهود المجلس على تنفيذ وثيقة القانون، والخطط الموضوعة لتنفيذه واختيا رمعياري شفاف لمجموعات الخبراء التي تعمل معه.
خامسا – تعزيز الإدارة التربوية على مستويات الهياكل التنظيمية في مكونات النظام التربوي كافة من حيث: اختيار القيادات، ومتابعتة تنفيذها لمسؤولياتها، والمساءلة على أي تقصير أو خلل، وتفويض الصلاحيات اقترابا من نهج اللامركزية خاصة على مستوى المدرسة، والكلية، والجامعة.....بوصفها الوحدات الأولى في النظام، والأولى بالرعاية والاهتمام، وتوفير الحاضنة الأنسب معنويا وماديا وتقنيا لمواقف التفاعل التعلمي، والاجتهاد بالتنافس الإيجابي؛ للوصول إلى ذروة التفاعل في كل موقف منها.
سادسا – التدريب النوعي البرامجي المكثف منه والمجزّأ، الذي تحتسب ساعاته في سجل المعلم والمشرف والمدير التراكمي في تقدمه الوظيفي المعنون فقط بالتقويم والتقدم الوظيفي القائم على الأداء والرتبة.
سابعا - ضبط عمليات النظام وبنيته التحتية بما يتوافق تماما مع الفكر، والتوجهات التي تضمنتها وثيقة النظام التربوي، مثل الانتقالات الآتية:
1- الانتقال بالتعامل مع المجتمع الأردني المتنوع (متعدد الثقافات الفرعية) من التعامل معه بالتساوي "وكأنه وحدة واحدة"، إلى التعامل مع تعدده عن طريق تعزيز الاختلافات، وتعظيم القواسم المشتركة.
2- من إنكار المشكلات (تراجع مستوى التعليم، وتراجع مستوى نتاجاته)، إلى الاعتراف بوجودها.
3-التحول في نهج الإدارة الحكومية وبالذات النظام التربوي من " إدارة الجُزُر المعزولة "، إلى نهج " وحدة عمل النظام " الشامل المتكامل.
4 - التحول في أسلوب إدارة النظام من " إدارة مركزية "، إلى " إدارة لا مركزية "، حيث تقوم على استقلالية الوحدة الأساسية الأولى في النظام وهي (المدرسة، الجامعة، المؤسسة، المعهد،... )، بوصفها الأَولى في الرعاية والاهتمام.
5 - اعتماد المتعلم/ المتعلمة هدفا أساسيا للنظام في واقع العمليات، بدلا من التركيز على محتوى التعلم، وتقويم مستوى الطالبة بناء على تذكر حقائقه ومعلوماته وتفسيرها وتطبيقها في أفضل الحالات.
6- اعتماد نهج المهارات مرافقا، أو بديلا إلى نهج الشهادات.
7- إعداد الموارد البشرية وتمكينها بالتدريب النوعي والتطبيقي ( أكاديميا، وأساليبيا، وتقنيا، وإنسانيا ، واجتماعيا )، وعلى الأخص المعلم وهيئات الإدارة الميدانية، والقيادات في مستوى الإدارة العليا والوسطى.
8-الانتقال الجاد من التركيز على ماضوية المعلومات والاتجاهات إلى المستقبل قراءة، واستشرافا وتحوطا ومساهمة.
9- من فسيفساء الواقع التعليمي المنفلت، القائم على معايير المال والنفوذ، وتبادل المصالح الشخصية، إلى تعليم منضبط يحقق المساواة والعدالة، وتكافؤ الفرص.
10- من تعليم كمّي مسطّح يركز على التلقين والتقويم إلى تعلم نوعي قائم على التفكير، يركز على شخصية المتعلم المتوازنة، وتشريبه منظومة القيم المرغوبة المحلية والعالمية، وتجذير انتمائه الوطني، وتمكينه من مهارات التعلم الذاتي القائم على البحث والمشاريع، وتوظيف التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.
11- من تعليم قائم على مناهج جافة تقليدية …. إلى تعليم مدمج يوظف أحدث التكنولوجيات، ووسائل الاتصال الحديثة.
12- التحول بالتفوق والمتفوقين ومخرجاتهم من الابتكارات، والاختراعات التكنولوجية من السلبية إلى الإيجابية، ومن العمل الذي يقود للتدمير وانتهاك الخصوصيات، إلى احترام الإنسان وخصوصياته.
13- الانتقال من بيئات العمل الفقيرة الجافة، إلى بيئات حاضنة ثريّة تربويا، ونفسيا، واجتماعيا، وماديا، وتكنولوجيّا.