من ستاربكس إلى ماكدونالدز.. كيف تصبح المقاطعة سلاحا فعالا للمقاومة؟
جو 24 :
منذ بدايات العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، عادت دعوات مقاطعة البضائع الداعمة لإسرائيل للظهور بقوة، ومع ازدياد وتيرة العنف الإسرائيلي وتصاعد عدد الضحايا، شهدت الحركة زخما واسعا وتأثيرا كبيرا، ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط وإنما في جميع أنحاء العالم، خاصة مع تزايد الوعي بالقضية الفلسطينية وارتفاع الغضب الشعبي تجاه ازدواجية المعايير الغربية التي منحت غطاء متبجحا وغير مسبوق للجرائم الإسرائيلية.
تقوم فكرة المقاطعة على رفض التعامل مع منتجات شركة/جهة/بلد معين، بهدف فرض تغيير في الإجراءات السياسية أو الاجتماعية لتلك الجهة، من خلال توظيف تأثير الحركة الجماعية. وتكتسب حملات المقاطعة أهمية خاصة في المناطق التي تتمتع بقوة شرائية كبيرة، ويمكن أن يؤدي قرار مقاطعة المنتجات فيها إلى تداعيات مالية ملحوظة على الشركات المستهدفة. وكلما توسعت أعمال هذه الشركات، كانت أكثر عُرضة لتأثير المقاطعة في مناطق مختلفة من العالم.
ولا يتعلق تأثير المقاطعة وقوتها بتأثيرها على المبيعات فقط، ولكن الأهم في تأثيرها على سمعة الشركة وعلامتها التجارية. في دراسة أجراها برايدن كينج من قسم الإدارة والمنظمات في كلية كيلوغ للإدارة (Kellogg)، كشفت النتائج عن أن الشركات التي شهدت انخفاضا في السمعة العامة كانت أكثر تضررا من تلك التي شهدت انخفاضا في مبيعاتها، وأنه كلما زاد اهتمام وسائل الإعلام بالمقاطعة ازدادت فاعليتها.
وتشير دراسة كينج إلى أن انخفاض المبيعات يحمل تأثيرا ضئيلا من الناحية الإحصائية، إذا ما قورن بتأثير المقاطعة على السمعة أو الصورة العامة للشركات، وهو ما تنظر له الدراسة باعتباره مكمن القوة الحقيقية لحركات المقاطعة، حيث ينظر صناع القرار في الشركات، طبقا للدراسة، إلى تلك الحملات باعتبارها تهديدا أكثر خطورة على سمعتهم منها على المبيعات. وتقدم دراسة كينج عدة نصائح لدعم نجاح حركات المقاطعة، تتعلق باختيار الشركات المستهدفة. فالأفضل، طبقا لنتائج دراسته، هي تلك التي تعاني من أزمة في الصورة العامة، كما ينصح بوضع خطة لإشراك وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من البداية (1).
تأثير المقاطعة
يشير دليل المناصرة الفعالة الصادر عن صندوق أدوات المجتمع بجامعة كنساس (2) إلى دراسة استقصائية أُجريت عام 1991 في المملكة المتحدة، كشفت عن أن قادة الأعمال اعتبروا المقاطعة أكثر فاعلية من حملات الضغط أو الدعاوى الجماعية في إقناعهم بتعديل ممارساتهم. ويشير الدليل أيضا إلى أهمية تحديد أهداف واقعية، طويلة المدى، مع وجود أهداف أخرى للتحقق على المدى القصير.
وفقا لسيزار تشافيز، الذي قاد حركة المقاطعة ضد مزارعي العنب في كاليفورنيا في ستينيات القرن الماضي، تحتاج المقاطعة إلى إقناع نحو 5% من المستهلكين بالانخراط في المقاطعة المنظمة لإحداث تأثير مادي ملموس، أما إذا بلغت النسبة 10% من المستهلكين فذلك قد يؤدي إلى تأثير مدمر (3). لكن كما سبق أن أشرنا، طبقا لدراسة كينج، لا تحتاج المقاطعة دائما إلى تحقيق هذا التأثير على المبيعات، ففي بعض الأحيان يكون التهديد بخسارة السمعة والأعمال كافيا لإنجاح المقاطعة.
ولكي تتمكن المقاطعة من تحقيق أهدافها بشكل مستدام وطويل الأجل، لا بد من طرح بدائل مناسبة للمستهلكين، ذات جودة وأسعار مقاربة أو أقل من أسعار تلك التي يقاطعونها، ومن السهل الوصول إليها. وفي حملات مقاطعة البضائع المستوردة تحديدا، غالبا ما يتحول المستهلكون نحو البدائل المحلية، وهكذا إلى جوار تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية المرجوة من المقاطعة، يمكن أن تكون هناك تأثيرات إيجابية على الاقتصاد المحلي. ظهر ذلك على سبيل المثال في مصر، حيث أدى الزخم الكبير الذي تمتعت به حركة المقاطعة بين المصريين بمختلف طوائفهم وطبقاتهم الاجتماعية إلى ازدهار العديد من المنتجات المحلية، وجاء بمنزلة قُبلة حياة لبعضها.
وقد نشط الكثير من المؤثرين (الإنفلونسرز) في مواكبة هذا التيار والتعريف بالعديد من البدائل المحلية في مختلف المجالات. وبينما يثير معارضو المقاطعة عادة مخاوف بشأن تأثيراتها السلبية على العمالة، وعلى سلاسل التوريد، فعلى العكس، من الممكن أن تمنح المقاطعة الاقتصادية طويلة الأجل دفعة قوية للاقتصاد المحلي، مع حدوث طفرة في الطلب على البدائل المحلية. لكن ذلك يعتمد بالأساس على الاستمرارية على المدى البعيد (4).
من ماكدونالدز إلى بوما
ظهر تأثير المقاطعة الشعبية جليا على الكيانات الاقتصادية الكبرى، ولعل سلسلة مقاهي ستاربكس الشهيرة أحد أبرز الأمثلة، فوفقا لمصادر صحفية، مُنيت ستاربكس في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول الماضي بخسارة نحو أحد عشر مليار دولار، أي ما يقارب 10% من إجمالي قيمتها السوقية، وذلك إثر انخفاض أسهمها على مدار 12 جلسة متتالية في سوق الأسهم، فيما يُعد أطول سلسلة مسجلة على الإطلاق منذ طرح الشركة للاكتتاب العام في عام 1992.
جاءت حملة المقاطعة بعد أن رفعت سلسلة ستاربكس دعوى قضائية ضد نقابة العمال المتحدين، وهي النقابة التي تنظم العاملين في سلسلة متاجرها، بعد نشرهم عبارة "تضامنا مع فلسطين" على وسائل التواصل الاجتماعي، لاحقا حُذف هذا المنشور، وأطلقت ستاربكس بيانا أعلنت عبره أن هذا المنشور "أضر بسمعتها"، وهو الأمر الذي قوبل برد فعل جماهيري عنيف، تجلى في الدعوات لمقاطعة منتجات الشركة ومقاهيها عبر حملة ضخمة على وسائل التواصل الاجتماعي تتضمن هاشتاغ #boycottstarbucks الذي حصد ملايين المشاهدات (5).
الأمر نفسه تكرر مع سلسلة مطاعم ماكدونالدز، ففي التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت "ماكدونالدز" في إسرائيل عن تبرعها بآلاف الوجبات المجانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي والجرحى الإسرائيليين، وهو ما أثار غضبا شعبيا كبيرا، وأشعل حملة مقاطعة واسعة النطاق لفروع السلسلة في مختلف دول الشرق الأوسط. سارعت فروع ماكدونالدز في عدد من الدول الأخرى في الشرق الأوسط بإصدار بيانات تؤكد استقلاليتها وانفصالها عن هذا القرار، كما أعلنت بعض الفروع عن تبرعها بجزء من أرباحها لأعمال الإغاثة في غزة، في محاولة منها لتخفيف غضب الجماهير.
لكن يبدو أن الجماهير صارت أوعى من أن تبتلع هذه المبررات، فلا تزال فروع ماكدونالدز في مختلف الدول العربية أقل إشغالا من المعتاد. كما ظهر تأثير المقاطعة الموجع في منشور للرئيس التنفيذي لشركة ماكدونالدز كريس كيمبنسكي نشره على موقع "لينكد إن" تحدث فيه عن التأثير الملموس و"المحبط" الذي تشهده الأسواق في الشرق الأوسط وخارجه بسبب الحرب و"المعلومات المضللة المرتبطة بها"، حسب وصفه، وعن تأثر ماكدونالدز الكبير بها (6).
"زارا" أيضا، وهي من أبرز العلامات التجارية في مجال الأزياء، كانت من الشركات التي تعرضت للمقاطعة، وكذلك لعدد كبير من الوقفات والتظاهرات في مختلف فروعها حول العالم، كما تتابعت الشكاوى ضدها في هيئة مراقبة الإعلانات في المملكة المتحدة، وذلك في أعقاب نشرها حملة إعلانية تُظهر العارضين على خلفية من الصخور والتوابيت والأكفان، في مشاهد بدا وكأنها تحاكي الدمار الواقع في غزة، اتُّهمت على إثرها بالاستهزاء من معاناة الضحايا الفلسطينيين في غزة. وسرعان ما حُذفت منشورات الحملة الدعائية، وأطلقت الشركة على ما حدث "سوء فهم".
وفي مجال الأزياء أيضا ازدادت حِدّة الانتقادات التي تواجهها شركة "ماركس آند سبنسر" التي نشرت صورة قبعة مشتعلة بألوان العلم الفلسطيني خلال احتفالات عيد الميلاد. وقد أعلنت هيئة معايير الإعلان (ASA) عن تلقيها 116 شكوى بشأن هذا الإعلان، مما اضطر الشركة لاحقا لإزالته والاعتذار عنه. لكن ذلك الاعتذار لا ينفي كونها واحدة من أبرز الشركات على لائحة المقاطعة منذ عدة سنوات نظرا لدعمها طويل الأمد للمنظمات الصهيونية (7).
كما جاء إعلان المتحدث باسم شركة "بوما" للملابس الرياضية في ديسمبر/كانون الأول الماضي عن إنهاء عقد رعايتها للمنتخب الإسرائيلي لكرة القدم لعام 2024 بوصفه واحدا من أبرز نجاحات حركة المقاطعة طويلة الأمد التي امتدت لما قبل اندلاع أحداث أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هذا وتمكنت حملة المقاطعة من استخدام التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي لزيادة فاعلية وانتشار الحركة، فاليوم هناك عدد من المواقع المتخصصة للتعرف على البضائع المستهدفة وبدائلها، وهناك أيضا تطبيقات خاصة بالهواتف، تُستخدم في المتجر لمسح "الباركود" الخاص بالسلع للتأكد من كونها ضمن حملة المقاطعة أم لا.
يعيد هذا الزخم إلى الأذهان حملة واسعة النطاق لمقاطعة العلامات التجارية الأميركية، اكتسبت زخما كبيرا في أوائل الألفية الحالية، عقب اشتعال أحداث الانتفاضة الثانية، والغزو الأميركي للعراق، وقد أدت وقتها إلى انخفاض مبيعات تلك العلامات بنسب متفاوتة تراوحت بين 25-40% طبقا لتقرير نشر بالغارديان (8).
عادة ما تتبنى العلامات التجارية مجموعة من السياسات من أجل مواجهة حملات المقاطعة والتقليل من تأثيرها، لعل أبرزها تقديم التبرعات في محاولة لغسل أيديها وتحسين صورتها، وإثارة المخاوف والشكوك حول تأثيرات المقاطعة السلبية على الاقتصادات المحلية للدول، بالإضافة إلى محاولات الاندماج في الثقافة المحلية والهوية الوطنية، كما رأينا في 2001 كيف أطلقت ماكدونالدز شطيرة "ماك فلافل" في فروعها المصرية (9).
المقاطعة عبر التاريخ
في عام 1912 اندلعت حركة مقاطعة (ترام واي تونس) المملوك لشركة فرنسية، بعد تعرض طفل تونسي للدهس
في عام 1912 اندلعت حركة مقاطعة (ترام واي تونس) المملوك لشركة فرنسية بعد تعرض طفل تونسي للدهس (مواقع التواصل)
تعود أصول لفظ "boycott" أو "بويكوت" الذي يُستخدم للتعبير عن المقاطعة في اللغة الإنجليزية إلى عام 1880، وذلك حين رفض العمال الأيرلنديون التعاون مع وكيل الأراضي الإنجليزي تشارلز كننغهام بويكوت، ومن هنا استُخدم اللفظ للتعبير عن المقاطعة الجماعية والنبذ المنظم لأول مرة بواسطة صحيفة التايمز في مقال نشرته في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
لكن تاريخ المقاطعة الفعلي يعود إلى أبعد من ذلك الوقت. على سبيل المثال، نجحت حملة مقاطعة السكر الذي ينتجه العبيد في إنجلترا على خلفية رفض البرلمان لإلغاء قانون العبودية في عام 1791، وهي المقاطعة التي أطلقت سلسلة من المقاطعات والاحتجاجات أدت في النهاية إلى إلغاء العبودية.
ولعل من أشهر المقاطعات الناجحة تاريخيا هي ثورة التنباك (التبغ) عام 1890 في إيران، حيث حاول الشاه وقتها قصر تسويق التنباك لصالح شركة بريطانية، وقد أصدر رجال الدين وقتها فتوى بتحريم التنباك، ما تسبب في عزوف الناس عن شرائه وإفشال الصفقة في نهاية المطاف.
وفي عام 1912 في تونس، اندلعت حركة مقاطعة "ترام واي تونس" المملوك لشركة فرنسية بعد تعرض طفل تونسي للدهس. وفي عشرينيات القرن الماضي أيضا استخدم المهاتما غاندي حركة المقاطعة بوصفها جزءا أساسيا في مقاومة الاستعمار البريطاني، مطلقا عبارته الشهيرة: كلوا مما تُنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو، احملوا مغازلكم واتبعوني". وكانت الخسائر الاقتصادية التي لحقت ببريطانيا من أهم العوامل التي أدت إلى إنهاء الاستعمار لاحقا.
كما أفلحت مقاطعة حافلات مونتغمري في منتصف خمسينيات القرن الماضي في إطلاق حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، وبالمثل نجحت مقاطعة عمال مزارع العنب في الولايات المتحدة في أواخر ستينيات القرن العشرين في الضغط على أصحاب المزارع للاستجابة لحقوق العمال.
على مدار التاريخ، كانت المقاطعة سلاحا فعالا للمستضعفين للتعبير عن موقفهم في مواجهة سلطة أكثر قوة وبطشا. وبغض النظر عن تأثيرها الاقتصادي، تظل مقاطعة الكيانات الداعمة للاحتلال في الوقت الراهن واجبا أخلاقيا على الجميع، خاصة إذا كان هذا الواجب لا يتطلب أكثر من التخلي عن شطيرة من البرغر أو كوب من القهوة أو الصودا.
المصدر : الجزيرة