لينينغراد وغزّة : نموذج لإرادة الصمود . . !
فريق ركن متقاعد موسى العدوان
جو 24 :
مدينة لينينغراد السوفيتية، اكتسبت اسمها من اسم زعيمها الماركسي لينين ( 1870 – 1924 )، مؤسس دولة الاتحاد السوفيتي السابقة، وهو أيضا مؤسس المذهب اللينيني السياسي رافعا شعار : " الأرض والخبز والسلام ".
وكانت هذه المدينة تعتبر أكبر مدينة في الاتحاد السوفيتي بعد موسكو، في أوائل الأربعينات من القرن الماضي، إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 3 ملايين نسمة. وفي وقت لاحق تم استبدال هذا الاسم باسم ( سانت بطرس بيرغ ).
اجتاحت القوات الألمانية الأراضي السوفيتية، خلال الحرب العالمية الثانية، بعملية غزو عسكرية أطلق عليها اسم ( بربروسا )، منتهكة بذلك معاهدة عدم الاعتداء، المعقودة بين الطرفين. فحشد الألمان حوالي 3 ملايين جندي، وتقدموا بهجوم كاسح على الاتحاد السوفيتي من خلال ثلاثة محاور.
تركز خلاها جيشا الوسط والجنوب على محورين في مناطق موسكو وأوكرانيا. وتركز هجوم جيش الشمال على لينينغراد، حيث يتواجد بها أسطول البلطيق، إضافة لاحتوائها على مئات المصانع، باعتبارها المنطقة التي ستضعف الاتحاد السوفيتي، ويؤدي إلى انهيار البلاد إذا جرى احتلالها.
في هذا المقال سأركز حديثي على جيش الشمال دون التطرق للجيوش الأخرى. فأقد فشل هذا الجيش في احتلاله مدينة لينينغراد، بعد أن تصدت له القوات السوفيتية المدافعة بتعاون وثيق مع الأهالي ومنع أي اختراق لها، ضمن حركة بطولية للدفاع عن المدينة.
ونتيجة لذلك، أمر هتلر في 8 سبتمبر1941 قائد جيش الشمال، بفرض حصار كامل على المدينة، في محاولة لإجبارها على الاستسلام. في اليوم التالي باشر قائد الجيش الألماني بشن حملة قصف جوي ومدفعي مكثف ومتواصل ، تمكن خلاله من تدمير مخازن الغذاء والوقود، إضافة للبنى التحتية في المدينة.
لم يجد الشعب في المدينة ما يأكله، نتيجة لتدمير مخازن الغذاء والحصار المفروض عليهم، فاضطروا لاستخراج حبوب الشعير من روث الخيل، ونزع مادة الغراء من ورق الجدران، لطحنها وأكلها بدلا من الخبز. استمر الحصار والقصف المتواصل لمدة 900 يوم، من 9 سبتمبر 1941 وحتى 18 يناير 1943، ألقيت خلاله 75 ألف قذيفة على المدينة. ولكن سكانها أبدوا صمودا منقطع النظير، ورفضوا الرضوخ والاستسلام للقوات الغازية، رغم أن خسائرهم البشرية تجاوزت المليون قتيل.
وهنا أرغب أن أذكر القصة التالية :
في عام 1977 كنت عضوا في وفد لزيارة الاتحاد السوفيتي، برئاسة القائد العام للقوات المسلحة الأردنية آنذاك، الشريف زيد بن شاكر عليه رحمة الله. كانت هذه الزيارة التي تجري لأول مرة في تاريخ الجيش الأردني إلى دولة شرقية، وكانت غايتها البحث مع وزارة الدفاع السوفيتية، شراء منظومة دفاع جوي، نستكمل بها أحدى الثغرات في أنظمة تسليح قواتنا المسلحة.
وبعد الاطلاع على الأسلحة والمعدات المطلوبة ومشاهدة فعاليتها عمليا في الميدان، قمنا بزيارة لمدينة لينينغراد الشهيرة. وعلى قمة جبل مرتفع يطل على المدينة، استمعنا لإيجاز من أحد الضباط السوفييت، شرح لنا من خلاله الصمود الأسطوري للمدينة، في وجه القوات الألمانية، في الحرب العالمية الثانية. كما شاهدنا في مكان قريب حولنا على قمة الجبل، لوحة كبيرة من حجر الجرانيت، مثبته على الأرض، ومكتوب عليها بعض الكلمات باللغة الروسية. سألنا ضابط الإيجاز عن معنى تلك الكلمات:
فأجابنا بأن حجر الجرانيت الذي يعتبر أصلب أنواع الحجر، يناجي أهل لينينغراد قائلا : " أتمنى أن أكون بصلابتكم يا أهل لينينغراد "، تعبيرا عن صمودهم في وجه الغزاة الألمان، وردهم على أعقابهم خاسرين، بعد حصارهم الطويل للمدينة، ورفضها للاستسلام خلال الحرب العالمية الثانية.
ومقارنة مع صمود أهل غزة، على الحصار الاقتصادي، الذي فرضه عليهم العدو الإسرائيلي، لما يزيد على 17 عاما حتى الآن، تلاه معجزة " طوفان الأقصى " العظيمة، التي أذلت العدو الإسرائيلي في عقر داره، ومواصلة الصمود الأسطوري لأهل غزة وكتائب القسام الباسلة، في القتال والصمود أمام أكبر قوة عسكرية في المنطقة، مزودة بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا، لما يزيد على ثلاثة أشهر ونصف حتى الآن، وما زالوا يشقون طريقهم بقوة إلى النصر بعون الله، فإنهم بفعلهم هذا، يجسّدون صورة الصمود العظيمة لأهالي لينينغراد ضد المعتدين الألمان، قبل ما يزيد على ثمانية عقود.
ورغم الفارق الكبير في الديموغرافيا والجغرافيا، بين المدينتين لينينغراد وغزة، إلاّ أنه يشكل نموذجا متماثلا، لانتصار إرادة الصمود والمقاومة في وجه عدو حاقد، يشن حرب إبادة على السكان المدنيين العُزّل، فيدمر المنازل فوق رؤوس أصحابها، ويهدم المشافي ودور العبادة، ويمنع كل أسباب الحياة البشرية.
وهنا يحق لأهل غزة، بعد نهاية هذه الحرب الظالمة عليهم، وفرض سلام المنتصرين الغزاويين، أن ينصبوا لوحة من الجرانيت، في أعلى قمة من مدينة غزة، لتقف شاهدة على صمودهم وتضحياتهم، في الدفاع عن وطنهم، ونيابة عن الأمة العربية أمام الأجيال اللاحقة، على أن يُكتب عليها بأحرف بارزة :
" أتمنى أن أكون بصلابتكم يا أهل غزة العزة ".