وقفات الرابية والأقلام الخشنة.. هل قصدت حماس تأجيج الداخل الأردني؟
ايهاب سلامة
جو 24 :
* الشارع بين فوبيا الإسلاميين و"أحزاب الانتخابات" الغائبة!
لنتفق بداية، ان حراك الشارع الأردني تاريخيًا، هو حالة طبيعية وصحية لدولة تعيش في قلب أحداث المنطقة، وربما العالم، ولا يمكن مطلقًا عزل شارعها عن التفاعل مع قضاياه الداخلية والقومية.
يدرك من يعرف معدن الأردنيين وديدنهم، أنه لا يمكنهم النأى بأنفسهم عن الاحداث الجسيمة التي تمر بها أمتهم، فلا طبيعة وتركيبة عقلياتهم وجيناتهم الأصيلة تقبل ذلك، ولا إرثهم وتاريخهم الوطني والقومي المتأصلين يقبلانها أيضًا.
على العكس تمامًا..
الذي لا يمكن لعقل استساغته، أن يصمت الشارع الأردني على حرب الإبادة التي راح ضحيتها عشرات آلاف الفلسطينيين في غزة، بل أن تصمت الشعوب العربية والإسلامية كلها على هذه المذابح التي لم يشهد التاريخ فداحتها ودمويتها ووحشيتها، بحق شعب ينطق الضاد موحدًا مثلهم ربه.
اذًا، لماذا شهدنا موجة فجائية من التصريحات الخشنة، وحملة إعلامية من أقلام شحذت بغلو يفوق الحدث الذي اعتاد عليه الشارع الأردني ردحاً طويلًا من الزمن، دون أن يخلف أثرًا على أمن المجتمع وسلامته، وظل ضمن الحدود المعقولة والمقبولة للدولة التي أدارت ملف حراكات الشارع بحكمة وحنكة، وانتهجت بحصافة فذة، سياسة الأحتواء، وعبرت بالأردن تحديات تاريخية بالغة الصعوبة، وأرست سفينة البلاد دومًا في موانىء آمنة سالمة، رغم عواصف المنطقة التي كانت تهب حولها من كل حدب وصوب.
الأقلام التي انهالت تضخ خطابات ديماغوجية محذرة من "حرف البوصلة"، كادت هي أن تحرف البوصلة، وأوشكت تؤلب الشارع على الشارع!، لولا وعي الأردنيين الذي يفوق وعي نخبهم؛ وربما كانت صرخات آلاف المشجعين الأردنيين خلال مباراة كرة قدم بين فريقي الوحدات والفيصلي، وهي تصدح نصرة لغزة، ولوحدة الداخل الأردني المقدس، ردًا عفويًا غير مباشر!
الانفعالات المبالغة غير المحسوبة تزامنًا مع حالة التعاطف الشعبي مع غزة ومقاومتها الذي يفوق التصور اليوم، وهو موقف أردني أخوي وإنساني وعروبي وعقائدي طبيعي سليم نظرًا لطبيعة العلاقة، وفداحة الكارثة، بدت وكأنها محاولة لزج هذه الحالة الشعبية المشحونة بالعاطفة "بين خيارين" (..) ما يطرح سؤالاً عن المنطق الوطني السليم في هذا التصرف المندفع؟
لنفصّل المسألة:
تبريرات الهجوم الذي شنته بعض الأقلام بشكل لاذع بحجة وجود تجاوزات خلال المسيرات، لم تبدُ مقنعة. فمن الطبيعي وجود بعض التجاوزات الفردية في أي تجمعات تحدث بأي دولة، شريطة أن لا تتحول إلى أعمال عنف وخروج عن القانون، أو تهدف لشغب وتخريب وإحداث شرخ في المجتمع الأردني الذي طالما كان بمستوى عال من الوعي، ويغلّب أمن ومصلحة بلاده وسلامتها، فوق أي قضية وغاية ومصلحة.
ومن الطبيعي جدًا، حدوث حالات تماس فردية بسيطة هنا وهناك، مع رجال الأمن القادرين على احتواء الموقف بكل اقتدار وخبرة وبراعة، والقادرين أيضًا على فض الوقفات الشعبية في محيط سفارة الإحتلال بمنطقة الرابية، وأية منطقة اخرى، في ظرف خمس دقائق لو أرادوا ذلك، لكنهم، يتعاملون مع منفذي الوقفات الشعبية كأبناء وأخوة وأخوات، لهم حق التظاهر ضمن القانون، وفي الوقت نفسه، يتكفل القانون الأردني بالقصاص ممن يخرجون عنه، بكل عدالة ونزاهة، علمًا بأنه كان يتم الإفراج عن جميع الموقوفين خلال مسيرات وحراكات الشارع دومًا في غضون ساعات وأيام، ولم تعاملهم الدولة بالقانون بقدر ما عاملتهم بروح القانون والحكمة.
المأخذ السياسي الآخر من وجهة نظر فسرت تصريحات لقادة من حركة المقاومة الإسلامية حماس، بأنها تؤجج الشارع على الداخل الأردني، لم يكن المبالغة في الانسياق خلفها حصيفة لأسباب عدة.
اولاً، لا يقبل العقل أو المنطق أن يكون هذا مقصد خطاب لأي من قادة حماس، لانعدام وجود مصلحة ومنفعة سياسية واحدة للحركة بالتحريض على صدامات في الداخل الأردني لا قدر الله، فحماس وقياداتها، يعون تمام الوعي، بأن الأردن بكافة أطيافه ومكوناته، قيادة وشعبًا وحكومة، هي الدولة الأكثر وقوفًا مع غزة بكل امكاناتها، ووقفت بكل قوتها الدبلوماسية والسياسية والشعبية مع الشعب الفلسطيني تاريخيًا ومرحليًا، ولا يوجد في العالم من يتفاعل مع غزة قهرًا والمًا واسنادًا، كما الأردن، فلماذا تغامر الحركة بخسارة أقرب المقربين من فلسطين وقضيتها هكذا بكل بساطة؟!
التفسير بكل ألم وبساطة، أن غزة تتعرض لأبشع حرب إبادة في التاريخ، ولو وضع أي شعب في الموضع الذي هم فيه اليوم، من الطبيعي جدًا أن يصرخوا، ويطلقوا نداءات استغاثة، ويستدروا عطف العرب والمسلمين والعالم، فهول الكارثة الذي يتعرضون لها يفوق الوصف، ولا يفترض المغالاة في مؤاخذتهم.
ثم، لا يمكن تفسير ذات التصريحات بذات المنطق، لأن قيادات الحركة يدركون تمامًا بأن الشعب الأردني الذي يقف مع الفلسطينيين بكل إمكاناته، سينقلب عليها في طرفة عين إذا ما استدرك أن الدعوات الموجهة إليه، تهدف للاصطدام مع دولته وأجهزتها، لأن أردنيًا عاقلًا واحدًا لن يقبل أو يسمح أن يكون إسناد غزة يمر عبر خراب دولته، وهو ما لا تقبله بكل تأكيد حماس للأردن أيضًا.
هكذا هي المعادلة التي يجب أن نقرأها بكل منطق وبساطة، بدءًا من الأقلام التي استفاقت من غيبوبتها وأخذت تشحن الشارع على الشارع، في وقت بلغ فيه اصطفاف الشارع خلف دولته ذروته!
أما تفسيرات محاولة استحواذ تيار سياسي واحد على حراك الشارع، والمقصود به هنا الحركة الإسلامية تحديدًا، فهو تفسير بحاجة إلى تفسير ..
فلماذا لم تشارك الأحزاب التي ولدت برعاية رسمية في حراكات الشارع بطريقتها الخاصة، وأخذت حصتها من "كعكة الشارع" بدلًا من غيابها المطلق عن الحدث الجلل وكأن الأمر لا يعنيها، ولماذا نلوم الإسلاميين على محاولتهم السيطرة على الشارع رغم اختلافنا مع فكرة سيطرتهم على الشارع الذي خرجت أغلبيته بانفعالات عفوية غير مؤطرة نصرة لغزة وأهلها، ولا نلوم غياب عشرات الأحزاب الأخرى المتحفزة لمكاسب الانتخابات فقط، وتعيش في كوكب آخر بعيداً عن الشارع وقضاياه وهمومه؟
ما يجب إدراكه، أن حراك الشارع ضد الجرائم الصهيونية حالة طبيعية وصحية، طالما كانت تحت سقف القانون الذي لا يقبل أي أردني غيور على وطنه تجاوزه، وهي قنوات تصريف طبيعية تفرغ احتقانات الناس الساخطة جراء المشاهد الدموية الفظيعة التي يرونها من نصف عام على حرب الإبادة.
الأصوات التي تصدح، إنما تصدح نصرة لغزة، ومعادية لكيان الدم، وليست موجهة للداخل الأردني لا قدر الله، ولا تقبل حرف البوصلة، أو المساس من قريب أو بعيد شعرة في رأس رجل أمن من أبنائهم واخوانهم، أو أن تطال الأيادي التي ترفع الأعلام واليافطات ذرة من مقدرات الدولة.
القانون فوق الجميع، وهو الحكم والفيصل، والحكمة تتجلى باحتواء النفوس الغاضبة على ما يحدث في غزة، سيما وأن موقف قيادتهم ودولتهم المشرف، مواز لموقفهم، وربما أكثر.