الحسبان يكتب: تحديث يتلوه آخر، فآخر، والنتيجة مسارات دائرية خانقة وليست خطية تغييرية
جو 24 :
كتب د. عبدالحكيم الحسبان -
شكل نظام الخدمة المدنية الجديد الذي قدمته الحكومة تحت عنوان نظام إدارة الموارد البشرية مادة جديدة للنقاش بل ولمزيد من عمليات الاستقطاب التي باتت تقسم الشارع الاردني في الممارسة على مستوى السلوك كما على مستوى الخطاب الاجتماعي العام. وأما نظام الخدمة المدنية الجديد الذي جرى تحديثه، فقد سبقته سلسلة طويلة من التحديثات ومن الخطط التحديثية؛ خطة لتحديث القطاع العام سبقتها خطة لتحديث منظومة الحياة السياسية، تبعتها خطة لتحديث النظام الانتخابي، سبقتها خطة لتحديث الدستور من خلال تعديل بعض بنوده. والحال، فإن من يعيش في البلاد يلحظ أن البناء السياسي وهو الذي بات يتركز كثيرا في أعلى، صار يستغرق معظم وقته أو جله، في نقاشات، وخطط تتخذ كلها من شعارات التحديث والتطوير والتنمية عناوين كبرى لها. قطاعات الطاقة، والاستثمار، والتعليم، والسياحة وغيرها سبق للشارع الاردني أن عاش حولها حديثا طويلا يزيد عمره عن العشرين عاما.
وقبل الخوض في موضوعة التحديث على النسق الأردني الذي يجري حاليا، لا بد من التأكيد أن لا كلمة على أجمل على قلبي وعقلي كما على عقل الاردنيين وقلبهم، أكثر مما تختزنه كلمة تحديث، وتطوير، وتغيير. فالمجتمع الذي قفز بأرقام ناتجه القومي في اقل من سبعين عاما من ملايين قليلة من الدولارات وحيث نسبة الامية تكاد تصل إلى الى اكثر من 99 بالمئة من السكان، وحيث البنى الاقتصادية هي في جلها رعوية وفلاحية لا علاقة لها بالزراعة هي أشبه باقتصاديات العزلة، إلى اقتصاد تعولم كثيرا ويقترب ناتجه القومي من الخمسين مليارا من الدولارات أثبت أنه مجتمع تواق للتغيير والتحديث بل هو جاهز ومقتدر على التكيف مع تبعاتهما وحتى دفع اثمانهما حينما يتطلب الأمر.
وثمة سبب آخر يجعل من الاردنيين محبين حد العشق للتغيير والتحديث والتطوير؛ ويتعلق الامر هنا بالواقع المر الذي يعيشه كل الاردنيين من أزمة معيشية خانقة، في الصحة كما في أزمات المرور الخانقة، كما في البطالة والفقر والجريمة، وهجرة الشباب، مضافا أليها حالة قلق عامة من غياب الافق على مستوى مالات تطورات السياسات الاقليمية ومستقبل الاردن في خضمها. فالتغيير والتحديث وبعيدا عن النقاش النظري والمفاهيمي المعرفي المتعلق بهما والذي لن نتناوله في هذه المقالة، هو ديدن الاردنيين، والشواهد على ذلك أكثر من أن يتم تعدادها ووضع قائمة بها. واما ما نود لفت النظر إليه في هذه المقالة فهو بضع ملاحظات تتعلق بالكيفية، والمنهجية، وبهوية الفاعلين المنخرطين في هذه السلسلة الطويلة من نقاشات التحديث وخططها وبرامجها. والحال، أننا هنا لا نكتب ما نكتبه كي نهاجم أو ننتقد شخوصا أو أشخاص، فمن يبذلون وقتهم وجهدهم في محاولة التغيير والتحديث يستحقون كل احترام على المستوى الشخصي وعلى مستوى هوياتهم الشخصية والدينية والمناطقية والعشائرية، ولكننا هنا بصدد مناقشة السياسات وليس الشخصيات والهويات.
من يراقب نطاق الخطط التحديثية إن كان على مستوى النطاق الزمني أو الموضوعاتي، فسوف يتكون لديه انطباع وإن كان خادعا بأن البلاد منخرطة بالفعل في مسارات تحديثية تؤدي لتجديد بناها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والقيمية. قد يكون صانع القرار وعلى مستوى النوايا منخرطا بالفعل في خطط تحديثية للبلاد مجتمعا، ودولة، وسكانا، وأرضا. ولكن المراقب والمحلل لنسق خطط التحديث والقطاعات التي يشملها التحديث، كما الأدوات التي يوظفها صانع القرار في غزواته التحديثية سوف يسجل الكثير من الثقوب بل والاختلالات التي تجعل من سلسلة التحديثات هي أشبه بالسير في طريق ومسار تخاله متغيرا وتراكميا خطيا، ولكنك تكتشف وبعد أن تقطع الكثير من المسافات مستهلكا الكثير من الوقت والجهد، انك تعود في كل مرة الى نفس النقطة التي بدأت بها، وأن التغيير لم يحصل وانك تسير في مسار دائري وليس خطيا تراكميا. مفهوم التحديث والتغيير هو يتضمن حتما مسار خطي تراكمي، وكل لحظة فيه لا تشبه ما سبقتها، ولن تشبه مطلقا ما ستليها. واما المسارات على الارض في الاردن التي نسلكها منذ عقود هي بالقطع مسارات تبقينا نراوح في المكان ذاته، حيث هناك الكثير من الخطط التحديثية والتغييرية ولكن على مستوى الارض والواقع تتزايد نسب المديونية والفقر والبطالة والجريمة وتدمير البيئة، وتدمير النسيج السكاني.
فمن مفارقات التحديث وسلسلة غزوات التحديث، أن الاردنيين سمعوا عن خطط لتحديث كل شيء تقريبا؛ تحديث للقطاع الصحي، وتحديث لقطاع الطاقة، وتحديث لقطاع التعليم، وتحديث للحياة السياسة، وهم باتوا خاضعين لكل عمليات التحديث، وهم يسمعون طوال الوقت عن خطط للتحديث تتطلب منهم في كل يوم مزيدا من الشروط والممارسات التي يجب أن يقوموا بها كي يمتثلوا لشروط خطط التحديث، ولكن في مقابل هذه السلسلة من خطط التحديث، فثمة شيء واحد لم يسمع الاردنيون من سلسلة الحكومات المتواصلة اي حديث عنه، او مجرد الاقتراب منه. ويتعلق الامر هنا بتحديث الرواتب والاجور. فالاردني بات أمام واقع معيشي يجري فيه تحديث كل شي تقريبا ما يعني أن ينعكس ذلك في النهاية على تحديث راتبه ومعيشته، ولكنه ومع كل هذه المعارك الطاحنة في التحديث لم يجر تحديث على راتبه منذ عقود، بل إن التحديث الذي يجري على الرواتب هو تحديث عكسي.
ولعل من اكثر مفارقات التي تظرهها خطط التحديث المتواصلة في البلاد، أن خطط التحديث تجري في معظم الاحيان على مستوى التشريعات وعلى مستوى الاطار القانوني دون كبير التفات لما يجري على الارض وعلى مستوى المنظومة السلوكية والممارساتية التي تجري على الارض في البلاد. تحديث القوانين والتشريعات هو ضرورة، ولكن إبقاء التحديث ضمن معارك النص والممارسات الخطابية واللغوية دون أن ينتقل إلى الارض والمجتمع والسكان سوف يخلق حالة من الشيزوفرينيا، بحيث يكون لديك مثلا قانون للسير على النسق السويدي، وربما يتفوق عليه، ولكن الكيفية التي يقود بها الاردنيون مركباتهم، كما الكيفية التي تصمم وتجهز بها الجهات المختصة الطرق، كما الكيفية التي يتعامل بها رقيب السير مع الطرق لا تشبه مطلقا حال القانون والتشريع الذي صيغ على النسق السويدي.
ومن مفارقات خطط التحديث المتواصلة، أنها تشمل كل أو معظم الشرائح أو القطاعات التي تخضع لصانع القرار والسياسات، من جمهور وموظفين على اختلاف مواقعهم، ولكن خطط التحديث هذه لم تشمل حتى الان صناع القرار أنفسهم ممن يقومون بوضع السياسات، وبالاشراف وبالرقابة على حسن تطبيقها. فما معنى أن تضع نظاما من الاف الصفحات حول الممارسات الفضلى للموظف في دائرة ضريبة الدخل أو الاحوال المدنية أو مديريات الصحة، كما تضع اكثر الشروط صرامة حول مواصفات الموظف وحول شروط ادائه، ولكنك في المقابل تترك مواصفات من يتولى الوزارة والنيابة وموقع الامين العام في الوزارة، وموقع رئيس الجامعة دون تحديث، وتبقي التعيين فيه دون شروط ومواصفات، وتبقيه لكوتا العشيرة والمنطقة والاثنية والدين والشلة أو العصبة؟؟ كي يكون التحديث ذو معنى، فينبغي أن يكون في ألاعلى وفي أسفل البناء الاجتماعي وفي أعلى بناء الدولة.
نسق التحديث ومفهومه الذي بتنا نعيشه في الاردن وما طفق صانع القرار يمارسه منذ عقود يشبه كثيرا حال طائرة يجري طول الوقت تحديثها، فقد أصررت عند شرائها على ارسال وفد تقني محكم، تمكن من وضع افضل الشروط والمواصفات عند صناعتها. فباتت الطائرة تشتمل على مواصفات ميكانيكية وتقنية ومعلوماتية ولوجستية معقدة جدا، وبات أمر إدراتها يتطلب طاقما قياديا يملك قدرات ذهنية وعقلية وعملية معقدة وغنية لتعرف كيف تشغل الطائرة وتتعامل مع تعقيداتها وبما يمكن من الحصول على افضل النتئائج من تشغيلها، فتقوم طوال الوقت بتحديث كل شروط تشغيل الطائرة، وشروط عملها، وسلامة ركابها، أي أنك تحدث كل ما يتعلق بالطائرة، ولكنك تبقى على شروط من يتولى قيادة الطائرة دون أي تغيير فتسمح مثلا لمن لم يكمل الثانوية العامة ووفق اعتبارات السياسة، والكوتا، والعشيرة، والمنطقة، والشلة، أن يقود الطائرة ويصدر التعليمات في كل ما يتعلق بالطائرة من ميكانيك وكهرباء واجراءات سلامة.
كي يكون للتحديث والتغيير من معنى في نفوس الاردنيين، وكي يلاقى الصدى المرجو بحيث تتحول خطط التحديث من مجرد نصوص يخوص معاركها تكنوقراطيون، وسياسيون ومشرعون في غرف مغلقة، إلى ورش بناء وطنية تاريخية كبرى ينخرط بها كل الاردنيين بكافة شرائحهم، وتنخرط بها عقولهم وضمائرهم فقد بات من الضروري توليد مقاربة اخرى، وابتداع عقل جديد في مقاربة مجمل عمليات التحديث في البلاد بحيث يتعامل مع التحديث بصورة شمولية وبعقل دولة وليس بمنطق السياسة الضيقة، و"السياسيات" الاضيق. فدستور البلاد مثلا حديث وتحديثي على صعيد مفهوم المواطنة وتعريفها، ولكن التشريعات والممارسات التي تجري تنسف كثيرا من مفهوم المواطنة حين يجري تولية من يصنعون السياسة، ليضعوا خطط التغيير والتحديث وفق معايير سابقة للدولة والمجتمع الحديثين. وكيف يمكن لقانون الخدمة المدنية الجديد أن يتيقن أن تقييم الموظف من قبل مديره أو رئيسه المباشر هو تقرير مهني ومؤسساتي ولا علاقة له بهويات ما قبل الدولة من عشيرة وطائفة ومنطقة وشلة والتي نحرص في اماكن كثير من سياساتنا على بقائها حية، ونعمل كل ما هو ضروري على إعادة انتاجها.
ثمة كثير من الحديث يتوجب الخوض فيه عندما يتعلق الامر بهجمات التحديث المتواصلة التي يعيشها الأردنيون، ولكننا ولأن المقالة صحافية آثرنا الاكتفاء بهذ القدر من الكلام.