عن قسوة الجغرافيا ومعابثتها.. كرة اللهب وشهية الاستعمار الغربي ستلتهم دول الجوار
جهاد الرنتيسي
جو 24 :
يمكن التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها نتاجا للهندسة الاستعمارية، أميل الى أنها من اكثر القضايا تعبيرا عن "قسوة الجغرافيا" على القضايا العادلة في تاريخنا المعاصر، وتجسد أكثر من غيرها تجليات فكرة ارتباط الجغرافيا بالتاريخ، هناك الكثير من الشواهد، ولا بأس من الوقوف عندها.
ظهرت هذه الملامح واضحة على القضية الفلسطينية مع الحاج امين الحسيني الذي اضطر الى مغادرة البلاد بعد ان اصبح بقاء زعامة الفلسطينيين مستحيلا فوق ارضهم، التنقل بين بغداد وبيروت وبرلين، والاحتفاظ بمبررات التعاون مع هتلر في مواجهة شهية الغرب الاستعماري المفتوحة لاقامة الدولة الثكنة في فلسطين.
حاول ياسر عرفات التذاكي على الجغرافيا برقصه على حبال النظام الرسمي العربي واضطرته بهلوانية الرقص وانحسار الافق المتاح الى وضع بيضه في السلة الامريكية لينتهي مشروعه في مقاطعة رام الله.
سعى اليسار الفلسطيني لاحداث حالة توازن من خلال ايجاد مخارج من السلة العرفاتية، والبحث عن افق اوسع، بعيد عن عواصم التوحش الراسمالي، عبر فتح قنوات حقيقية مع الانظمة الوطنية في سورية والعراق ومصر، وبناء علاقة مع الاتحاد السوفيتي للاستفادة من مناخات الحرب الباردة، لكن محاولاته انكفأت الى غير رجعة مع تفكك الشريك الايديولوجي المفترض، وانقضاض الغرب على مشاريع الدول المؤهلة للنهوض بالواقع العربي.
ساهمت قسوة الجغرافيا في كبح جماح الاصلاح الفتحاوي، ومحاولة الافلات من بيت الطاعة الامريكي بعد خروج المقاومة من بيروت، بابقاء ظاهرة انتفاضة حركة فتح في الحاضنة "السورية ـ الليبية" واخراجها من دائرة الفعل الحقيقي، بتقليص قدرتها على المناورة.
اخذت اطلالة قسوة الجغرافيا شكلا مختلفا في السنوات السابقة لطوفان الاقصى الذي اطلقته المقاومة الوطنية ممثلة بواجهتها الاسلامية في غزة، لم يخرج القطاع من حصاره في يوم من الايام، مما اضطر حركة حماس الى التحايل عليه في بناء قدراتها العسكرية وادارتها للحياة اليومية، والعمل على الحد من تداعيات المعادلة بابقاء قيادتها السياسية في الخارج.
من غير المستبعد ان يكون اختيار يحي السنوار رئيسا لحماس محاولة للحد من قسوة الجغرافيا التي اعقبت الطوفان، فهو الاكثر قدرة على المناورة والتأثير في القرار وتجنب الضغط الامريكي بحكم وجوده في الانفاق، يتيح له الاستثناء الذي حظي به فرصته لصناعة المستقبل، ويعطيه موطئ قدم في التاريخ الذي يدخله من اوسع ابوابه، بغض النظر عن نتائج المواجهة.
في دعايته الانتخابية ذهب مخيال مرشح الرئاسة الامريكية دونالد ترامب الى ما هو ابعد من جغرافيا فلسطين بحديثه عن اسرائيل اكبر في هذه المنطقة الشاسعة، ليعيد الى الاذهان ان المستقبل وليد الماضي والراهن، ويذكرنا بشهية الاستعمار الغربي الحديث،المفتوحة على العبث بجغرافيا بلادنا، والاستيلاء على ثروات شعوبنا.
لا تبتعد رغبة الرئيس محمود عباس بحمل اركان زعامته والذهاب الى القطاع كما صرح مؤخرا عن فهمه للجغرافيا ودورها، فهو يدرك جيدا خروج سلطته من التاريخ بانتقال موقع القرار الى مكان اخر غير مقاطعته في رام الله، وانسداد الافق امام احتمالات نجاة سلطته او استعادة بعض دورها دون تواجدها في غزة.
اقتربت التعليقات التي تناولت الطرح من انتاج سؤال قسوة الجغرافيا ودور المكان في صناعة التاريخ، بتناولها المعبر الذي سيدخل منه رئيس السلطة وحاشيته الى القطاع،وكان من الاجدى التوقف عند هذه السياقات المتداخلة، لتكوين صورة اوضح حول امكانية اعادة انتاج سلطة متهالكة غير مأسوف عليها.