لأن الناس مقامات
فهمي هويدي
جو 24 : اصطحب الرجل ابنه وخرج لتوصيله إلى النادي الرياضي لكي يشارك في مباراة لكرة القدم في يوم العطلة. في الصباح الباكر قاد سيارته واتجه إلى أحد الجسور الموصلة بين أطراف القاهرة الكبرى. عند أول منعطف في مدخل الجسر(الدائري الرابع) اعترضته سيارة وأوقفته. وبسرعة هبط منها ثلاثة شبان ملثمين يحملون بنادق آلية، ومعهم رابع مثلهم يحمل أسطوانة بوتاجاز. أنزلوه من سيارته وطلبوا منه مفتاح تشغيلها وهاتفه المحمول وما معه من نقود، بعدما أعطاهم ما يريدون. تقدم أحدهم نحو سيارته وشرع في قيادتها، في حين همَّ الآخرون بركوب سيارتهم الأصلية، إلا ان أحدهم أطلق رصاصة للترهيب والتخويف في الأغلب، فاخترقت الجانب الأيمن للابن، الذي سالت منه الدماء غزيرة، هرب الملثمون بما غنموا، في حين أصيب الرجل بالهلع جراء ما أصاب ابنه. فحمله على كتفه وهرول إلى الشارع حتى وجد من أنقذه وأوصل الاثنين إلى مستشفي الهرم. لم يجد الأطباء مفرا من إزالة الطحال الذي تهتك من أثر الرصاصة التي اطلقت، وأجروا الاسعافات اللازمة لوقف النزيف، ثم قرروا ان ينتظروا بعض الوقت لكي يستخرجوا الرصاصة التي استقرت تحت الرئة. ولا يزال الشاب راقدا في المستشفي ينتظر إجراء الجراحة الثانية.
إذا استعرضنا ما جرى ببطء فسوف نلاحظ ما يلي: إن الجريمة وقعت في القاهرة التي يفترض أنها أكثر المدن تأمينا في مصر. وإن ذلك حدث في وضح النهار، وفي مدخل واحد من أهم وأكبر الجسور التي تربط بين أطراف العاصمة، وانه لم يظهر جندي واحد في محيط الجريمة، ولأن الجناة كانوا مدركين لتلك الحقيقة فإنهم تصرفوا بمنتهى الطمأنينية، حيث أوقفوا سيارتهم (كورولا سوداء) بعرض الجسر، وفعلوا فعلتهم، ثم أطلقوا رصاصة التخويف أثناء انصرافهم.
لا أستطيع أن أفترض السذاجة في السارقين. فاختيارهم لصباح يوم الجمعة يكشف عن دراية وخبرة. لأنه اليوم الذي تتوقع فيه الأجهزة الأمنية أن يتسع نطاق المظاهرات وأن تخرج إلى الشوارع من حيث لا يحتسبون. لذلك فإن كل همها خلال ذلك اليوم بالذات أن تتصدى للمظاهرات وأن تؤمّن المناطق أو المؤسسات التي تتوقع استهدافها. لهذا السبب فكل من تسول له نفسه أن يرتكب أي جريمة لا علاقة لها بالسياسة فعليه أن ينتظر أوقات المظاهرات، وأن يُقدم على فعلته وهو مطمئن إلى أن أعين الشرطة وكافة حواسها متجهة صوب ما هو وثيق الصلة بالسياسة، ومنصرفة عما عداها.
الفكرة ليست جديدة لأن الانطباع السائد في مصر منذ عدة سنوات أن الأجهزة المعنية مشغولة بحماية النظام ورموزه. بأكثر من حمايتها للمجتمع ورعايتها لمصالحه. وقد استقرت تلك الفكرة في مرحلة مبارك بوجه أخص حين كان اعتماده الأكبر على الشرطة التي عهد إليها بترتيب أمور كثيرة في البلد، من الانتخابات إلى التوريث، وكل الذي حدث ان نشاط الخارجين على القانون تضاعف بعد ثورة يناير 2011، أولا لأن الشرطة انسحبت من المشهد بصورة نسبية، وثانيا لأن جرأة الناس عليها صارت أكبر، وثالثا لأن خروج المظاهرات منذ تولى الدكتور محمد مرسي الرئاسة لم يكن أحد أسباب انشغال الشرطة واستدعائها فحسب، ولكن أيضا لأن تلك المرحلة شهدت «تعاونا» بين الشرطة والبلطجية، الذين أصبحوا أحد العناصر التي تسهم في قمع المتظاهرين وفض المظاهرات.
لا يزال انشغال الشرطة بحماية النظام وانصرافها عن حماية المجتمع يشكل عنصرا مهما في تشجيع الخارجين على القانون على ارتكاب جرائمهم. إلا ان هناك مشكلة أخرى تضاعف من عدم اكتراث الشرطة بمثل الحالة التي نحن بصددها. وهي أن الضحية فيها من المواطنين العاديين. الذين لا يثير إهمال الشرطة بأمرهم تساؤل أحد أو اهتمامه. أما كبار المسؤولين ونجوم السياسة والإعلام فإنهم يلقون معاملة خاصة إذا ما تعرضوا لأي عدوان على أموالهم وممتلكاتهم أو مواكبهم بطبيعة الحال. حيث تلك هي الحالات التي تستنفر فيها الشرطة لتستعرض قدراتها وتسلط فيها وسائل الإعلام الضوء على كفاءتها وانجازاتها. وهو ما لا يتاح لها في حالات الجرائم التي ترتكب بحق المواطنين العاديين، الذين هم أصلا أكثر من الهم على القلب، ناهيك عن ان وسائل الإعلام لا تأتي لهم على ذكر في العادة. وفي أحسن أحوالهم فإنها قد تشير إلى أسمائهم في صفحات الحوادث إذا حلت بهم كارثة من أي نوع. وتقبل بذكرها في صفحات الوفيات إذا ما دفع أهلوهم في ذلك الأجر المعلوم.
إزاء ذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت ان المشكلة أكبر من مجرد حادث سرقت فيه سيارة هيونداي وأدت العربدة والاستهتار فيه إلى إزالة طحال شاب وتهديد حياته، ولكنها مشكلة جهاز للشرطة تدرب على حماية النظام دون المجتمع، ومشكلة نظام نخبوي اعتبر المصري العادي مواطنا من الدرجة الثانية وبنى سياسته على أساس ان العين لا يمكن ان تعلو على الحاجب. وأن الجميع أولاد تسعة أشهر حقا، لكن لكل مقامه واجب الاعتبار أيضا.
(السبيل)
إذا استعرضنا ما جرى ببطء فسوف نلاحظ ما يلي: إن الجريمة وقعت في القاهرة التي يفترض أنها أكثر المدن تأمينا في مصر. وإن ذلك حدث في وضح النهار، وفي مدخل واحد من أهم وأكبر الجسور التي تربط بين أطراف العاصمة، وانه لم يظهر جندي واحد في محيط الجريمة، ولأن الجناة كانوا مدركين لتلك الحقيقة فإنهم تصرفوا بمنتهى الطمأنينية، حيث أوقفوا سيارتهم (كورولا سوداء) بعرض الجسر، وفعلوا فعلتهم، ثم أطلقوا رصاصة التخويف أثناء انصرافهم.
لا أستطيع أن أفترض السذاجة في السارقين. فاختيارهم لصباح يوم الجمعة يكشف عن دراية وخبرة. لأنه اليوم الذي تتوقع فيه الأجهزة الأمنية أن يتسع نطاق المظاهرات وأن تخرج إلى الشوارع من حيث لا يحتسبون. لذلك فإن كل همها خلال ذلك اليوم بالذات أن تتصدى للمظاهرات وأن تؤمّن المناطق أو المؤسسات التي تتوقع استهدافها. لهذا السبب فكل من تسول له نفسه أن يرتكب أي جريمة لا علاقة لها بالسياسة فعليه أن ينتظر أوقات المظاهرات، وأن يُقدم على فعلته وهو مطمئن إلى أن أعين الشرطة وكافة حواسها متجهة صوب ما هو وثيق الصلة بالسياسة، ومنصرفة عما عداها.
الفكرة ليست جديدة لأن الانطباع السائد في مصر منذ عدة سنوات أن الأجهزة المعنية مشغولة بحماية النظام ورموزه. بأكثر من حمايتها للمجتمع ورعايتها لمصالحه. وقد استقرت تلك الفكرة في مرحلة مبارك بوجه أخص حين كان اعتماده الأكبر على الشرطة التي عهد إليها بترتيب أمور كثيرة في البلد، من الانتخابات إلى التوريث، وكل الذي حدث ان نشاط الخارجين على القانون تضاعف بعد ثورة يناير 2011، أولا لأن الشرطة انسحبت من المشهد بصورة نسبية، وثانيا لأن جرأة الناس عليها صارت أكبر، وثالثا لأن خروج المظاهرات منذ تولى الدكتور محمد مرسي الرئاسة لم يكن أحد أسباب انشغال الشرطة واستدعائها فحسب، ولكن أيضا لأن تلك المرحلة شهدت «تعاونا» بين الشرطة والبلطجية، الذين أصبحوا أحد العناصر التي تسهم في قمع المتظاهرين وفض المظاهرات.
لا يزال انشغال الشرطة بحماية النظام وانصرافها عن حماية المجتمع يشكل عنصرا مهما في تشجيع الخارجين على القانون على ارتكاب جرائمهم. إلا ان هناك مشكلة أخرى تضاعف من عدم اكتراث الشرطة بمثل الحالة التي نحن بصددها. وهي أن الضحية فيها من المواطنين العاديين. الذين لا يثير إهمال الشرطة بأمرهم تساؤل أحد أو اهتمامه. أما كبار المسؤولين ونجوم السياسة والإعلام فإنهم يلقون معاملة خاصة إذا ما تعرضوا لأي عدوان على أموالهم وممتلكاتهم أو مواكبهم بطبيعة الحال. حيث تلك هي الحالات التي تستنفر فيها الشرطة لتستعرض قدراتها وتسلط فيها وسائل الإعلام الضوء على كفاءتها وانجازاتها. وهو ما لا يتاح لها في حالات الجرائم التي ترتكب بحق المواطنين العاديين، الذين هم أصلا أكثر من الهم على القلب، ناهيك عن ان وسائل الإعلام لا تأتي لهم على ذكر في العادة. وفي أحسن أحوالهم فإنها قد تشير إلى أسمائهم في صفحات الحوادث إذا حلت بهم كارثة من أي نوع. وتقبل بذكرها في صفحات الوفيات إذا ما دفع أهلوهم في ذلك الأجر المعلوم.
إزاء ذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت ان المشكلة أكبر من مجرد حادث سرقت فيه سيارة هيونداي وأدت العربدة والاستهتار فيه إلى إزالة طحال شاب وتهديد حياته، ولكنها مشكلة جهاز للشرطة تدرب على حماية النظام دون المجتمع، ومشكلة نظام نخبوي اعتبر المصري العادي مواطنا من الدرجة الثانية وبنى سياسته على أساس ان العين لا يمكن ان تعلو على الحاجب. وأن الجميع أولاد تسعة أشهر حقا، لكن لكل مقامه واجب الاعتبار أيضا.
(السبيل)