مجلس النواب الأردني: بين آمال النزاهة وشكوك الديكور السياسي
د. محمد تركي بني سلامة
جو 24 :
خلال السنوات الماضية، تشكّل لدى الرأي العام صورة سلبية عن مجلس النواب، تلك الصورة لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة اضعاف مجلس النواب ،والتحكم بنتائج الانتتخابات قبل اجرائها ، بمعنى تزويرها ، وبالمحصلة هيمنة مباشرة على العملية الانتخابية، وفرض قرارات تتعلق برئاسة البرلمان والمكتب الدائم وأعضاء اللجان بشكل يكاد يكون محسومًا مسبقًا. ورغم اختلاف التوقعات هذا العام، ووسط تأكيدات عديدة حول نزاهة الانتخابات النيابية التي جرت هذا العام ، إلا أن ظلال الشك لا تزال تلقي بظلالها على المجلس الجديد.
كان من المتوقع مع بدء مرحلة عنوانها الابرز النزاهة والشفافية أن يكون لهذا المجلس طابع مختلف، يعكس طموحات الشعب الأردني في تجربة ديمقراطية حقيقية. ومن هنا، أعلن الإسلاميون، الذين حققوا حضورًا قويًا في الانتخابات، عن ترشيح النائب المخضرم صالح العرموطي لرئاسة المجلس، وهو شخصية تحظى بالاحترام لمواقفها الوطنية وخبراتها القانونية . في المقابل، أعلن رئيس المجلس السابق، السيد أحمد الصفدي، عن نيته الترشح، وهو برلماني مخضرم وسبق وتراس المجلس السابق ، مما خلق منافسة مشروعة وصحية وتعكس الديمقراطية في ابهى صورها .
لكن ما يدعو للأسف أن وسائل الإعلام بدأت بنقل أخبار تفيد بأن "رئاسة المجلس محسومة سلفا "، وأن الصفدي سيحصل على الرئاسة مع تسمية نوابه وأعضاء المكتب الدائم، ولم يتبقى سوى إعلان اسماء أعضاء ومقرري لجان البرلمان العشرين ، رغم أن البرلمان لم ينعقد بعد. هذه التصريحات المنسوبة لمصادر "مطلعة" غير معروفة تُسيء لصورة البرلمان الأردني، وتثير الشكوك حول نزاهة هذه العملية الديمقراطية. فكيف يُمكن للإعلام أن يُعلن عن الفائزين قبل بدء الانتخابات الفعلية؟ هذا التناقض بين ما يروج له الإعلام وما شهده الأردنيون من انتخابات نزيهة هذا العام ، يدفعنا للتساؤل حول ما إذا كانت هناك نوايا لإعادة البرلمان إلى دور "الديكور" مرة أخرى.
وبينما نحترم حق كل مرشح في التنافس المشروع، سواء كان أحمد الصفدي أو صالح العرموطي، إلا أن نشر أخبار تروج لفكرة أن النتيجة حُسمت قبل الانتخابات ينزع الثقة من هذا المجلس الجديد، ويعكس صورة سلبية عن البرلمان وعن التوجهات الإصلاحية في الأردن.
إن تطلعات الأردنيين تتجه نحو مجلس يعبر عن إرادتهم الحرة، مجلس يختار رئيسه بحرية، ويتمكن من تمثيل الأمة وممارسة دوره الرقابي والتشريعي على اكمل وجه.
ومما يثير القلق أيضًا هو محاولات تهميش بعض الأطياف السياسية، مثل الإسلاميين، الذين حققوا نجاحًا واضحًا في الانتخابات الأخيرة. منذ فوزهم، لم تتوقف بعض الأصوات عن الاصطياد في الماء الاسن ،وعن محاولات التشكيك في شرعيتهم، وكأنها تحاول تشويه صورتهم وإقصاءهم عن المشهد السياسي. هذه الممارسات تعيد إنتاج ما يعرف بـ "الإسلاموفوبيا" أو الخوف من الإسلاميين، وهي ليست سوى سياسة غربية النشأة ،ضيقة الأفق، لا تخدم مصلحة الأمة او الوطن في هذه المرحلة الحرجة ،والكل يعرف مصدر مفهوم الاسلامفوبيا والغاية منه وهي تشويه صورة الاسلام والمسلمين .
إن الأردن كان عبر تاريخه نموذجًا للوسطية والاعتدال، وهو حاضن لرسالة عمان التي تدعو للتسامح والتعايش، ومن غير المقبول أن نرى محاولات لشيطنة الإسلاميين أو إقصائهم من قبل اي جهة او من قبل زملاءهم النواب . فالمرحلة الحالية تتطلب منّا جميعًا العمل بروح واحدة وتجاوز الفتن، والابتعاد عن السياسات التي تزرع الشك والانقسام. إن التنوع في البرلمان ليس ضعفًا، بل هو مصدر قوة وإثراء للوطن.
وإذا كان نواب الأمة غير قادرين على ممارسة إرادتهم الحرة في اختيار رئيسهم وممثليهم لا قدر الله ، فكيف سيكونون قادرين على تمثيل الأمة؟ وكيف سيمارسون دورهم في الرقابة والتشريع؟
لقد قاد الإسلامي الراحل الشيخ عبد اللطيف عربيات مجلس النواب لأكثر من دورة في التسعينات، دون أن يخرج عن ثوابت الوطن والأمة. ومثلما فعل عربيات، فإن العرموطي أو الصفدي، أو أيًا كان من يحمل راية المجلس، قادر على أن يمثل الأمة بأمانة وإخلاص، شرط أن يُمنحوا الحرية الكاملة لممارسة إرادتهم.
في النهاية، لا يمكن أن تكون عودة البرلمان إلى كونه مجرد "ديكور" خيارًا صالحًا للأردن على المدى الطويل. رؤية الملك عبد الله الثاني تؤكد على أهمية تحديث الدولة سياسيًا، وضرورة أن تكون كل الانتخابات حرّة ونزيهة، كدليل على عدم تراجع الدولة عن مشروعها الإصلاحي. وما نريده اليوم هو مجلس يمثل طموحات الأردنيين ويعكس إرادتهم الحقيقية، دون تدخلات أو ضغوط تعيد البلاد إلى الوراء.
ختامًا، لا بد من التأكيد على ضرورة أن يكون البرلمان قادرًا على أن يجسد تطلعات الشعب، وأن يتمتع بالهيبة والاحترام، دون أي إساءة لصورته أو محاولات لتهميش أي طيف سياسي فيه. الأردن دولة قوية بتنوعها، والإسلاميون جزء أصيل من نسيج الأمة، ودورهم داخل البرلمان لا يقل أهمية عن دور غيرهم، لقد حان الوقت لنتجاوز الحسابات الضيقة ، وان ندرك ان في وحدتنا قوة ،وفي تنوعنا ثراء ، فنحن بحاجة الى كل طاقة والى كل يد تمتد لبناء هذا الوطن ، دون ان نخسر اي دور اصيل يسهم في رفعته وازدهاره ،فلتكن رؤيتنا شاملة ومبنية على الوحدة والاحترام المتبادل.
اننا نوجه ندأ خالصا إلى ضمير الوطن وعقلاءه إلى التوقف عن سياسات الاقصاء والتهميش والتشكيك ،وأن تقف صفا واحدا ،بعيدا عن الفتن التي تفرق ولا تجمع،وعن السياسات التي تزرع الشك وتوجج الصراعات وتهدم الثقة بمؤسسات الدولة ،ولا تجلب إلا الضرر والخراب للوطن ومصالحه .