أعيدوا خدمة العلم
ياسر ابو هلاله
جو 24 : لا طائل من الحديث عن إصلاح التعليم العالي. كل ما يمكن هو تحسين شروط الحياة في المضارب العشائرية المسماة جامعات! فرئاسة الجامعة، والمواقع الأكاديمية، كثيرا ما تخضع لحسابات عشائرية ومناطقية ضيقة، والطلبة لا يدخلون تخصصات ويتنافسون في التحصيل العلمي، ولا ينخرطون في اللعبة السياسية؛ إنهم فرسان يخوضون الغزوات، ويطلبون الثارات.
هل من جديد تضيفه غزوة جامعة البلقاء الأخيرة، أو آل البيت قبلها؛ فيما لم تجف الدماء بعد من جامعة الحسين في معان؟ هل هي الغزوة الأخيرة؟ أيا كان الحكم الصادر عن محكمة أمن الدولة بحق المتورطين في المشاجرة الأخيرة، فإنه لن يردع من يطلب الموت دون ثأره. هذه مأساة مجتمع ودولة تحتاج حلولا عميقة وبعيدة المدى، ولا أحد لديه الاستعداد لإجراء عمليات جراحية معقدة. الكل يميل إلى المسكنات، ولو فتك المرض بالمريض.
إصلاح التعليم العالي، وتخريج جيل من الباحثين والعلماء، مهمة صعبة لا يريد أحد دفع كلفتها. لكن يوجد حل مقدور عليه، يُسهم في ضبط المجتمع، مع الحفاظ على رداءة التعليم العالي. إذ من الواضح أن المجتمع حريص على الرداءة؛ يريد إدخال أكبر عدد من الطلبة إلى الجامعات، وتعيين أكبر عدد من العاملين، وبناء أكبر عدد من الكليات والجامعات، وليست النوعية مهمة، ولا منسوب الرداءة. المهم أن الشباب يجدون جامعة تلمّهم بعد الثانوية العامة. وهذه الثانوية نفسها تحولت إلى مهزلة يكثر فيها الغش العلني.
تواطأت مصالح الدولة مع مصالح المجتمع في تدمير مؤسسات التعليم العالي. لكن اليوم، يشعر كلاهما بالخطر الداهم في ظل العنف والفوضى. هنا أقترح حلا عمليا، وهو العودة إلى خدمة العلم. فإذا كانت قطر أغنى بلد في العالم، والتي لم يسبق أن فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية في تاريخها، تلجأ إليها أداة لرفع كفاءة الشباب وبناء شخصيتهم، فكيف بالأردن الذي ظلت خدمة العلم مطبقة فيه لعقود؟
طُرحت في أكثر من مرة فكرة العودة إلى الخدمة الإجبارية، لكنها كانت تُواجه باعتراضات اقتصادية بالدرجة الأولى. وهذا صحيح، خصوصا أن الإنفاق العسكري لدينا من أعلى المستويات في العالم. وليس المطلوب خدمة لعامين ولا لنصف عام؛ بل ما يحتاجه الشباب أقرب إلى دورة كشافة؛ ثلاثة أشهر يخضعون خلالها لقيم الانضباط والسمع والطاعة واحترام القانون، مع تثقيف بالقيم الوطنية.
خلال هذه الأشهر الثلاثة، يُفترض أن يتحقق أعلى معدل من الصهر الاجتماعي، بحيث يذهب ابن معان إلى أقصى الشمال، وابن المفرق إلى أقصى الجنوب، وابن عبدون والشميساني إلى الزرقاء.. وهكذا. لا بد من تحقيق قدر من الصهر الاجتماعي، وقد تكون الفكرة منتجة اقتصاديا إذا شغل الطلبة في مشاريع تستنزف طاقاتهم في البناء بدلا من الشجار.
في نهضة سنغافورة، كانت الخدمة الإلزامية أساسا، إضافة إلى التعليم. ونحن هنا في مرحلة درء المخاطر أكثر من جلب المنافع. لقد دُمّر أكثر التعليم العالي بشكل منهجي بفعل سياسات الدولة، وفي المدى المنظور لا يمكن إعادة بنائه. الممكن هو التقليل من المخاطر الناجمة عن وجود الطلبة في الجامعات.
قد لا نحتاج موازنات وقوانين؛ ممكن إلغاء الفصل الصيفي المقبل، وفتح معسكرات تدريب لطلبة السنة الأخيرة. وستواجه التجربة عقبات وثغرات، لكنها تظل أقل خطورة من استمرار الوضع الراهن.
(الغد)
yaser.hilala@alghad.jo
هل من جديد تضيفه غزوة جامعة البلقاء الأخيرة، أو آل البيت قبلها؛ فيما لم تجف الدماء بعد من جامعة الحسين في معان؟ هل هي الغزوة الأخيرة؟ أيا كان الحكم الصادر عن محكمة أمن الدولة بحق المتورطين في المشاجرة الأخيرة، فإنه لن يردع من يطلب الموت دون ثأره. هذه مأساة مجتمع ودولة تحتاج حلولا عميقة وبعيدة المدى، ولا أحد لديه الاستعداد لإجراء عمليات جراحية معقدة. الكل يميل إلى المسكنات، ولو فتك المرض بالمريض.
إصلاح التعليم العالي، وتخريج جيل من الباحثين والعلماء، مهمة صعبة لا يريد أحد دفع كلفتها. لكن يوجد حل مقدور عليه، يُسهم في ضبط المجتمع، مع الحفاظ على رداءة التعليم العالي. إذ من الواضح أن المجتمع حريص على الرداءة؛ يريد إدخال أكبر عدد من الطلبة إلى الجامعات، وتعيين أكبر عدد من العاملين، وبناء أكبر عدد من الكليات والجامعات، وليست النوعية مهمة، ولا منسوب الرداءة. المهم أن الشباب يجدون جامعة تلمّهم بعد الثانوية العامة. وهذه الثانوية نفسها تحولت إلى مهزلة يكثر فيها الغش العلني.
تواطأت مصالح الدولة مع مصالح المجتمع في تدمير مؤسسات التعليم العالي. لكن اليوم، يشعر كلاهما بالخطر الداهم في ظل العنف والفوضى. هنا أقترح حلا عمليا، وهو العودة إلى خدمة العلم. فإذا كانت قطر أغنى بلد في العالم، والتي لم يسبق أن فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية في تاريخها، تلجأ إليها أداة لرفع كفاءة الشباب وبناء شخصيتهم، فكيف بالأردن الذي ظلت خدمة العلم مطبقة فيه لعقود؟
طُرحت في أكثر من مرة فكرة العودة إلى الخدمة الإجبارية، لكنها كانت تُواجه باعتراضات اقتصادية بالدرجة الأولى. وهذا صحيح، خصوصا أن الإنفاق العسكري لدينا من أعلى المستويات في العالم. وليس المطلوب خدمة لعامين ولا لنصف عام؛ بل ما يحتاجه الشباب أقرب إلى دورة كشافة؛ ثلاثة أشهر يخضعون خلالها لقيم الانضباط والسمع والطاعة واحترام القانون، مع تثقيف بالقيم الوطنية.
خلال هذه الأشهر الثلاثة، يُفترض أن يتحقق أعلى معدل من الصهر الاجتماعي، بحيث يذهب ابن معان إلى أقصى الشمال، وابن المفرق إلى أقصى الجنوب، وابن عبدون والشميساني إلى الزرقاء.. وهكذا. لا بد من تحقيق قدر من الصهر الاجتماعي، وقد تكون الفكرة منتجة اقتصاديا إذا شغل الطلبة في مشاريع تستنزف طاقاتهم في البناء بدلا من الشجار.
في نهضة سنغافورة، كانت الخدمة الإلزامية أساسا، إضافة إلى التعليم. ونحن هنا في مرحلة درء المخاطر أكثر من جلب المنافع. لقد دُمّر أكثر التعليم العالي بشكل منهجي بفعل سياسات الدولة، وفي المدى المنظور لا يمكن إعادة بنائه. الممكن هو التقليل من المخاطر الناجمة عن وجود الطلبة في الجامعات.
قد لا نحتاج موازنات وقوانين؛ ممكن إلغاء الفصل الصيفي المقبل، وفتح معسكرات تدريب لطلبة السنة الأخيرة. وستواجه التجربة عقبات وثغرات، لكنها تظل أقل خطورة من استمرار الوضع الراهن.
(الغد)
yaser.hilala@alghad.jo