نتنياهو والقوات الدولية: هل يرسم الأمن في غزة أم يحاصر المقاومة؟
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
في عالمٍ تُعيد فيه السياسة صياغة ملامح الحروب أكثر مما تُنهيها، يبدو أن غزة دخلت مرحلة جديدة من "سلام السلاح المعلّق"؛ سلام لا يُعلن ولا يُلغى، تُمسك بخيوطه واشنطن وتعيد صياغته تل أبيب على طريقتها. في الأفق مشهدٌ رماديّ، تتقاطع فيه خرائط الأمن بخيوط السياسة، ويتقدّم فيه مفهوم "القوات الدولية” لا كرمزٍ للتهدئة، بل كأداةٍ لإعادة تعريف السيطرة.
وسط هذا المشهد، يظهر بنيامين نتنياهو بوجهٍ سياسيٍّ مألوف: رجل لا يفاوض على نهاية الحرب، بل على شكل استمرارها. فحين تحدّث عن "الوجود الدولي في غزة”، لم يقصد حماية المدنيين أو ضمان الاستقرار، بل أراد أن يرسم حدود اللعبة بحيث تبقى إسرائيل اللاعب الوحيد الذي يُمسك بخيوط القرار حتى لو خرج من الميدان.
الحديث عن قواتٍ دولية ليس جديدًا في تاريخ الصراعات، لكنه في الحالة الغزّية يتجاوز المفهوم العسكري الكلاسيكي. فالمقترح الذي تدعمه واشنطن وتناقشه تل أبيب، لم يُبنَ على حفظ السلام، بل على "ضبط البيئة” بعد حربٍ أنهكت الجميع. في القراءة الإسرائيلية، تُراد هذه القوات لتكون درعًا سياسيًا يحمي الجيش من عبء الاحتلال المباشر، ويضمن استمرار السيطرة الأمنية دون مسؤولية إنسانية. بمعنى آخر، يريد نتنياهو قوات دولية تحرس مصالحه لا تُوازنها. أما في واشنطن، فالصورة مختلفة، فالإدارة الأميركية برئاسة ترامب ترى في هذا الترتيب فرصة لترميم صورتها كوسيط دون الدخول في التزاماتٍ ميدانية، فالقوات الدولية تمنحها مشهدًا من "الحضور الأخلاقي" دون تكلفة سياسية أو عسكرية.
وفي المقابل، تبدو مصر الأكثر براغماتية في التعاطي مع فكرة القوات الدولية؛ فهي لا ترفضها مطلقًا لكنها تشترط أن تكون الغاية منها منع الفوضى لا فرض وصاية، أما قطر فتتعامل مع الفكرة بحذرٍ مزدوج فهي لا تريد أن تُهمَّش في إدارة "اليوم التالي"، لكنها أيضًا لا تقبل أن تتحوّل القوات الدولية إلى غطاء لإضعاف المقاومة أو إقصائها عن المشهد السياسي، بينما تركيا التي لا تزال ترى في غزة عنوانًا لعودتها الإقليمية تدرك أن أي قوة أجنبية تُزرع في الميدان ستقلّص من نفوذها الرمزي والسياسي هناك ولهذا ترفض أن تُختزل الترتيبات الجديدة في معادلة أمنية محضة تتجاهل البعد الإنساني والسيادي. لكن خلف هذه الحسابات الإقليمية، بقي الميدان العامل الحاسم في تقرير مصير الأفكار، إذ فرض سلاح المقاومة نفسه بوصفه اللغة الوحيدة التي يفهمها الطرفان. في خضم كل هذا، يبقى سلاح المقاومة العامل الأكثر حسماً في ميزان الردع، فمهما تغيّرت الخطط لم تستطع إسرائيل أن تنزع من الميدان تلك المعادلة البسيطة: أن من يملك الإرادة يملك التأثير.
لقد أثبتت الحرب أن التفوّق الجوي لا يصنع الأمن، وأن القصف لا يلغي العقيدة، فبينما كانت الطائرات تملأ السماء، كانت المقاومة تُعيد بناء شبكاتها تحت الأرض، وهكذا وُلد الردع الجديد ليس من صاروخٍ يُطلق، بل من فكرةٍ تُزرع في وعي العدو: أن كل غارةٍ تعيد للمقاومة شرعيتها أمام شعبها. حتى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية باتت تُقرّ أن مفهوم "الردع الكامل” انتهى، فكل ضربةٍ تؤدي إلى تصعيدٍ جديد، وكل هدوءٍ مؤقت يُقابله انقسام داخلي في تل أبيب، ولهذا أصبح الردع الإسرائيلي دفاعيًا لا هجوميًا، قائمًا على الخوف من الانهيار لا على الثقة بالنصر.
يحاول نتنياهو أن يُحوّل الهزيمة إلى أسطورة، فيستدعي الخطاب التوراتي ويصف السنوار بـ"صلاح الدين الجديد”، لا تكريمًا له بل تحويرًا للصراع نحو طابع دينيّ يسهُل تسويقه أمام جمهوره، لكن النتيجة كانت عكسية، فكلما بالغ في الخطاب الرمزي ازداد انكشافه السياسي، فالردع الرمزي الذي صنعته إسرائيل بالكلمات كسرته المقاومة بالفعل، والقدرة على تبرير الفشل لم تعد تُقنع الداخل الإسرائيلي الذي يرى حكومته عاجزة عن تحقيق "نصرٍ نظيف”.
ترامب من جهته استغلّ المشهد ليعيد ترتيب أوراقه مع تل أبيب، فقد أعلن البيت الأبيض أن "المساعدات العسكرية مشروطة بالالتزام السياسي”، لتدخل العلاقة مرحلة جديدة من التبعية المشروطة، في الظاهر أراد ترامب أن يُعيد ضبط الإيقاع مع إسرائيل، لكن في الجوهر أراد أن يُبقي زمام القرار بيده: إسرائيل تُقاتل وأمريكا تُقرّر. وهكذا وجد نتنياهو نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ، إما أن يقبل بالقوات الدولية التي تحدّ من سيادته الميدانية، أو يرفضها فيتحمّل وحده مسؤولية الفوضى، وفي الحالتين يبدو أن مشروع "الردع الرمزي” بدأ يفقد لغته أمام منطق الميدان.
إن ما يُراد لغزة اليوم ليس سلامًا بالمعنى الكلاسيكي، بل سلامًا هندسيًّا، معادلة مصمَّمة بحيث لا يربح أحد بالكامل ولا يخسر أحد نهائيًا، لكن الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن المقاومة — رغم كل الجراح — ما زالت تُحدِّد إيقاع الردع، وأن كل مشروع سياسي لا يقرأ قوتها الميدانية سيظلّ ناقصًا مهما كان مدعومًا، ففي زمنٍ صار فيه الإعلام سلاحًا، والسياسة غطاءً للحروب غير المكتملة، يبقى السؤال








