2025-12-15 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

إسرائيل المطرودة من الجامعات… حين يفقد الاحتلال شرعيته في عقول العالم

زياد فرحان المجالي
جو 24 :
 منذ أن وضعت حرب غزة أوزارها المشتعلة على شاشات العالم، بدأت إسرائيل تخسر شيئًا فشيئًا ما لم تكن تدرك أنه أثمن من الأرض والسلاح: شرعيتها في العقول. فبعد أن كانت جامعاتها تتباهى بكونها منارات العلم والبحث، صارت تواجه موجة عزلة غير مسبوقة في الأوساط الأكاديمية الدولية، حتى باتت عبارة «إسرائيل المطرودة من الجامعات» عنوانًا واقعيًا لا مجازيًا.
في تقرير حديث لصحيفة هآرتس العبرية، كشف أن عدد حالات المقاطعة الأكاديمية ضد الباحثين والمؤسسات الإسرائيلية تضاعف ثلاث مرات خلال العامين الماضيين، ليتجاوز الألف حالة موثقة. هذه المقاطعات لم تأتِ من دول عربية أو خصوم سياسيين، بل من جامعات غربية كبرى، ومن اتحادات علمية ومراكز أبحاث كانت يومًا تعتبر التعاون مع إسرائيل مؤشرًا على التقدّم والانفتاح العلمي.
الضربة هذه المرة جاءت من حيث لم تتوقع تل أبيب: من قلب الجامعات التي لطالما تغنّت فيها بإنجازات علمائها، ومن المختبرات التي موّلتها الدول الأوروبية، ومن المؤتمرات التي كانت تُفتح لها أبوابها على مصراعيها. فاليوم، تُلغى الدعوات، وتُجمّد الشراكات، وتُسحب الأسماء الإسرائيلية من مشاريع بحثية مشتركة. أحد رؤساء الجامعات الإسرائيلية وصف الوضع بأنه "أسوأ أزمة أخلاقية في تاريخ البحث العلمي الإسرائيلي.”
يقول رئيس الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات:
> "الكثير من حالات المقاطعة تحدث في الخفاء، وقد لا نعرف أبدًا حجم الضرر الحقيقي، إلا أن أثرها سيمتد على ميزانيات البحث العلمي في إسرائيل لسنوات طويلة."
هذا الاعتراف العلني من داخل المؤسسة الأكاديمية يكشف عمق الأزمة، ويؤكد أن المقاطعة لم تعد رمزية بل مؤسسية، وأنها تهدد أحد ركائز "القوة الناعمة” الإسرائيلية التي بنت عليها صورتها الدولية منذ تأسيسها.
لأكثر من سبعة عقود، قدّمت إسرائيل نفسها كـ"أمة الابتكار" أمام الغرب. الجامعات العبرية، والتخنيون، وتل أبيب، وبن غوريون… كانت واجهات علمية تحمل رسالة واحدة: إسرائيل ليست مجرد دولة عسكرية، بل دولة معرفة. لكن مشاهد الدمار في غزة، وجرائم القصف التي طالت المدارس والمستشفيات، بدّدت تلك الصورة. لم تعد الجامعات الغربية ترى في إسرائيل "نموذجًا للتقدم”، بل نموذجًا لتبرير العنف باسم العلم.
ومن بروكسل، حيث تنعكس صدى المقاطعات الأكاديمية في الجامعات البلجيكية والهولندية، يبدو المشهد أوضح من أي وقت مضى.
فبلجيكا، التي لطالما احتضنت مؤسسات الفكر والبحث الأوروبية، تشهد اليوم أوسع موجة رفضٍ أكاديمي للتعاون مع إسرائيل، خصوصًا في جامعات بروكسل، لوفان، وغينت.
الأساتذة والطلبة هناك لم يكتفوا بالبيانات، بل أطلقوا حملات فعلية لوقف التمويل المشترك مع مؤسسات إسرائيلية متورطة في الصناعات العسكرية، معتبرين أن "الاحتلال لا يمكن أن يكون شريكًا في إنتاج المعرفة.”
في أوروبا عمومًا، أخذت المقاطعة الأكاديمية شكلاً منظّمًا، فعدد من الجامعات الهولندية والبلجيكية والنرويجية قرّر تعليق التعاون البحثي مع نظيراتها الإسرائيلية، بينما أعلنت اتحادات طلابية في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة رفض استقبال وفود إسرائيلية أو المشاركة في مؤتمرات تموّلها جهات إسرائيلية. هذه ليست مجرد احتجاجات طلابية عابرة، بل تحولات داخل مؤسسات التعليم العليا نفسها، حيث يُعاد النظر في القيم التي تحكم البحث العلمي وأخلاقياته.
لقد كان العلم لعقودٍ السلاح الأذكى في يد إسرائيل. من خلاله تسلّلت إلى اقتصادات العالم، وأقامت شراكات تقنية وأمنية جعلتها طرفًا لا يُستغنى عنه. لكن حين يبدأ هذا السلاح بفقدان بريقه في المختبرات الغربية، يصبح الكيان في مواجهة أزمة هوية حضارية. فإسرائيل التي اعتادت أن تفرض حضورها بالقوة، تجد نفسها الآن محاصرة بقوة الأخلاق.
الجامعات الإسرائيلية بدورها تشهد حالة من الارتباك الداخلي. فبينما تحاول الحكومة تقليص أثر المقاطعة عبر فتح قنوات بديلة في آسيا وأفريقيا، يرفض كثير من الباحثين التعاون مع هذه الخطط خوفًا من العزلة الأكاديمية. بعضهم أشار إلى أن "الضرر الحقيقي ليس في فقدان التمويل، بل في فقدان الثقة، لأن البحث العلمي لا يعيش في الفراغ، بل يحتاج بيئة تؤمن بحرية الفكر واحترام الإنسان."
هذه العزلة المتصاعدة لا تُقرأ فقط كمقاطعة سياسية، بل كانتفاضة فكرية عالمية ضد ثقافة الاحتلال. فالمجتمعات الأكاديمية التي رأت أطفال غزة تحت الركام لم تعد قادرة على الفصل بين "العلم الإسرائيلي” و”السلاح الإسرائيلي”، لأنهما خرجا من المؤسسة ذاتها التي تبرر الحرب باسم الأمن والتفوق التكنولوجي.
الخطير في الأمر أن هذا التآكل في الشرعية الأكاديمية يُرافقه انقسام داخلي حاد داخل إسرائيل نفسها، إذ يرى بعض الأكاديميين أن حكومة نتنياهو بخطابها المتطرف ضد الفلسطينيين هي من جلبت العزلة على المؤسسات العلمية. فيما يذهب آخرون إلى أن المقاطعة لن تتوقف عند الأبحاث، بل ستمتد إلى الاقتصاد والتقنيات العسكرية والمدنية على حد سواء.
العالم الأكاديمي بطبعه بطيء الحركة، لكنه حين يتحرك، يفعل ذلك بعمق وضمير. وما يجري الآن هو إعادة تعريفٍ للعلاقة بين المعرفة والعدالة. الجامعات لم تعد ترى نفسها ملزمة بالحياد أمام القتل، بل مسؤولة أخلاقيًا عن رفض التطبيع مع أي مؤسسة تبرّر الحرب أو تساهم فيها.
وما كان قبل أعوام موقفًا طلابيًا محدودًا، صار اليوم تيارًا عالميًا متناميًا يعيد صياغة صورة إسرائيل في المخيال الغربي. لم تعد تُقدَّم كواحة ديمقراطية وسط الصحراء، بل كدولة استيطان تُقصي الآخر وتستثمر في تكنولوجيا الحرب. وهكذا، تتحوّل المقاطعة من قرارٍ سياسي إلى محكمة ضميرٍ عالمية لا تحتاج إلى قضاة.
إسرائيل، التي طالما تباهت بأنها "نورٌ للأمم”، تجد نفسها اليوم خارج قاعات الأمم المتعلمة. تُغلق الأبواب في وجه علمائها، وتُحجب الدعوات عن أساتذتها، وتُسحب أوراقها من المؤتمرات الدولية. لم يعد الذكاء الاصطناعي الذي تفخر به قادرًا على إعادة رسم صورتها أمام الذكاء الإنساني الذي بدأ يُدرك حقيقتها.
إنها لحظة فقدانٍ كبرى لدولةٍ اعتادت أن تربح في الميدان وتنتصر في الإعلام، لكنها لم تحسب أن معركة الوعي أقسى من أي حرب.
فحين تطردك الجامعات من عقولها، تكون قد خسرت آخر معاقل "الشرعية الأخلاقية” التي تبقيك مقبولًا في العالم.
وما بين شارعٍ غاضب في أوروبا، ومختبرٍ صامت في تل أبيب، تتضح المفارقة:
لم تعد إسرائيل فقط قوةً مكروهة في السياسة، بل قضية مرفوضة في الفكر والضمير.
وذلك، في التاريخ، أخطر من أي هزيمة عسكرية.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير