jo24_banner
jo24_banner

محاولة أولية للإجابة عن سؤال يطرحه الملايين

حلمي الأسمر
جو 24 :

 
في زمنٍ يتهاوى فيه الضمير الإنساني أمام مشاهد غزة المحترقة، يتساءل الملايين: لماذا لا تهدد تركيا إسرائيل بالقوة العسكرية؟ لماذا يكتفي أردوغان بالتصريحات النارية والمواقف الغاضبة، دون أن يحرك أسطوله الجوي أو قواته المرابطة؟ أهو خوف أم حكمة؟ ضعف أم حساب؟ الحقيقة أكثر تعقيداً ومرارة مما يبدو على الشاشات.

أولاً: لأن التهديد العسكري يعني كسر النظام الدولي

تركيا ليست دولة معزولة في الصحراء. إنها عضوٌ راسخ في حلف الناتو، أي داخل المنظومة العسكرية الغربية التي تُعد إسرائيل جزءاً منها بحكم الواقع، لا النص.
أن تهدد أنقرة تل أبيب عسكرياً يعني أنك تهدد عملياً الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة القرار في الحلف، والضامن الاستراتيجي لوجود إسرائيل منذ تأسيسها.

أي تهديد تركي عسكري يُعتبر في لغة السياسة تمرداً على واشنطن، ومؤشراً على خروجٍ من الصف الغربي، وهو ما لا يمكن لأردوغان فعله دون أن يفتح على بلاده جبهةً اقتصادية وسياسية قد تفوق في قسوتها كل الحروب التي خاضها من قبل.

ثانياً: لأن الاقتصاد التركي رهينة النظام المالي الغربي

أنقرة تعرف أن الطلقة الأولى نحو إسرائيل تعني خنق الليرة التركية خلال 24 ساعة.
سيتدفق سيلٌ من العقوبات، ستتجمد الأرصدة، وسيتوقف الدعم الخليجي والاستثمار الأوروبي، وسينقلب الحلفاء إلى خصوم في لمح البصر.

إسرائيل ليست دولة صغيرة، بل جزء من المنظومة المالية والإعلامية الغربية التي تُعاقب من يعارضها وتكافئ من يطيعها.
ولذلك، يعرف أردوغان أن السياسة ليست عنفواناً فقط، بل توازناً بين وجدان الأمة وقدرة الدولة على البقاء.

 ثالثاً: لأن أردوغان يريد زعامة الوعي الإسلامي لا حرباً إقليمية

الرئيس التركي لا يسعى إلى لقب "القائد العسكري"، بل إلى لقب "قائد الوعي الإسلامي الجديد".
هو يختار رمزية الخطاب بدل رصاص المدافع، لأنه يدرك أن حرباً مباشرة مع إسرائيل قد تُفقده كل أوراقه الإقليمية.

تركيا اليوم تمارس المقاومة الناعمة:
تطرد السفير، توقف التبادل التجاري، تُدين الجرائم في المحافل، وتفتح جسور الإغاثة لغزة، لكنها لا تشعل حرباً قد تدمر ما تبقى من ميزان القوى في المنطقة.
إنه خيار من يريد أن يربح المعركة الكبرى على الوعي، لا جولةً عسكرية خاسرة.

 رابعاً: لأن إسرائيل تتقن فنّ "استدراج الخصوم"

إسرائيل تعشق أن يهددها أحد، لأنها تريد توسيع دائرة النار وتحويلها إلى حربٍ إقليمية تُعيد توحيد الغرب خلفها.
أي تهديد تركي عسكري يمنح إسرائيل ذريعة ذهبية لتوسيع العدوان، واتهام أنقرة بـ"الإرهاب الإسلامي" وإعادة شيطنة القضية الفلسطينية في الغرب.

تركيا تدرك هذا الفخ جيداً. فهي لا تريد أن تتحول غزة إلى ساحة حرب كبرى، ولا أن تُستدرج إلى معركةٍ تُفرغ قوتها في مستنقع صهيوني مُعدّ مسبقاً.
الذكاء هنا ليس في إطلاق النار، بل في منع النار من التهام المنطقة كلها.

خامساً: لأن تركيا تنتظر اللحظة التاريخية المناسبة

قد لا تهدد اليوم، لكنها تُراكم أوراق القوة بهدوء.
تُعيد بناء صناعتها الدفاعية، تُنشئ تحالفاتٍ جديدة مع آسيا وروسيا والعالم الإسلامي، وتترقب اللحظة التي يسقط فيها القناع الأمريكي وتنهار أسطورة "التفوق الإسرائيلي" أمام واقع جديد.

حينها فقط، سيتحوّل الغضب التركي من خطابٍ إلى فعل، ومن رمزيةٍ إلى مواجهةٍ تُغيّر وجه الشرق الأوسط.

 الخلاصة ...
تركيا لا تهدد إسرائيل بالقوة العسكرية لأنها لا تريد أن تقتل فلسطين مرتين: مرةً بسلاح الاحتلال، ومرةً بمغامرة غير محسوبة.
لكنّ أنقرة تعرف أن الزمن يعمل لصالحها، وأن الهيمنة الغربية إلى أفول، وأن يوماً سيأتي تُرفع فيه راية الرد الحقيقي — لا بالتصريحات، بل بالفعل.
حين تنكسر قبضة الدولار، وتتصدع أسطورة الردع الإسرائيلي، وتلتئم الأمة حول وعيها الجديد، ستتحدث تركيا بلغة المدافع لا المؤتمرات.
لكن حتى يحين ذلك اليوم، سيبقى صمتها المدروس أشد وقعاً من صراخ الآخرين.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير