jo24_banner
jo24_banner

عباءة التراب… المشهد الأخير في اغتيال يحيى السنوار

عباءة التراب… المشهد الأخير في اغتيال يحيى السنوار
جو 24 :

كتب  زياد فرحان المجالي

لم تكن العباءة التي غطّت جسد يحيى السنوار سوداء كما زعمت نشرات الاحتلال، بل كانت بلون التراب… نفس التراب الذي عاش فيه، ومنه، ولأجله. كانت عباءة ميدانية بنية، مائلة إلى الرمادي، محروقة الأطراف، كأنها التقت بنار الحرب قبل أن تلتقي بجسده. لم تكن زينة قائد، بل رداء مقاتلٍ يعرف أن الأرض هي آخر ما يحتضنه.

ذلك المشهد القصير الذي انتشر بعد ساعات من إعلان اغتياله، لم يكن مجرد صورة عابرة، بل نصّ رمزيّ يختزل سيرة رجلٍ صار عنوانًا للمقاومة وللمفارقة في آنٍ واحد: رجلٌ عاش في الظلّ ليصنع الضوء، ومات في الضوء ليعود إلى الظلّ.
في تفاصيل العباءة وحدها، تختبئ ثلاث طبقات من المعنى.

الأولى ميدانية: فهي ليست عباءة سياسية أو دينية، بل عباءة الميدان، الخفيفة التي كان يرتديها المقاتلون في رفح وخان يونس. لونها لا يشدّ الانتباه ولا يثير الريبة من الطائرات، ونسيجها متواضع، لا يليق إلا برجلٍ كان يرى نفسه واحدًا من الناس، لا فوقهم.

الثانية أمنية: فالمشهد الذي أظهره مغطّى بتلك العباءة جاء بعد عملية معقّدة وصفها الجيش الإسرائيلي بأنها "الأدق منذ بدء الحرب”. أراد الاحتلال أن يُظهر الصورة كـ"انتصار نهائي"، لكنه لم يدرك أن العباءة ذاتها حوّلت المشهد إلى عكس ما أراد: فبدل أن تبدو نهاية، بدت استمرارًا رمزيًا للمقاومة التي خرج منها.

أما الثالثة، فهي رمزية عميقة تتجاوز السياسة إلى ما يشبه القدر: أن يرحل قائدٌ وهو مغطّى بلون الأرض التي أقسم أن لا تُسلَّم.

حين ننظر إلى العباءة في ضوء هذا السياق، ندرك أن الاحتلال لم يقتل رجلًا فحسب، بل وثّق بيديه مشهد الخلود الذي أراد محوه. فالصورة التي انتشرت لتأكيد موته تحوّلت إلى وثيقة بصرية تُعيده إلى الحياة كل يوم. هكذا تعمل الرموز في الذاكرة الجمعية: تتخطّى الجسد لتصبح فكرة.

في الخطاب الإسرائيلي، حاولت المؤسسة العسكرية تقديم المشهد كدليل على "نهاية الأسطورة"، لكن النتيجة كانت عكسية. فكل تحليل عبري لاحق اعترف ضمنًا بأن اغتيال السنوار لم يغيّر شيئًا في الميدان، وأن المقاومة ما زالت تقاتل بذات التنظيم والصلابة. العباءة التي ظنّوا أنها غطاء الجثمان تحوّلت في الوعي الفلسطيني إلى راية صمتٍ تقول: "القائد تحت التراب… لكن التراب نفسه صار مقاتلًا.”
وفي أحياء غزة، تردّد وصف جديد بين الناس: "ما خلع عباءته، بل سلّمها.”

تلك العبارة البسيطة تختصر التحوّل من الفرد إلى الفكرة، من الجسد إلى الرمزية، من الموت إلى الاستمرار. لأن كل ثورة، وكل مقاومة، تعرف أن لحظة الاستشهاد ليست نهاية المعركة، بل لحظة إعادة تشكيل الوعي الجمعي حول المعنى ذاته.
سياسيًا، يمكن القول إن اغتيال السنوار شكّل ذروة حملة إسرائيلية أرادت رأس الرجل لتعلن النصر. غير أن مقتل القائد لم يُحدث ما توقّعته تل أبيب؛ إذ لم يخرج آلاف المقاومين من الأنفاق ليرفعوا الراية البيضاء، بل زادوا صلابة. لأن من عاشوا معه أدركوا أن من يلفّه التراب لا يموت، بل يعود في كل جدارٍ مهدّم، وفي كل يدٍ تُعيد إعمار بيت.

لقد فشل إعلام العدو في صناعة سردية "القائد المختبئ”.
فبينما كان المتحدث العسكري يكرّر عبارته: "نحن القادمون وهم مختبئون.”
كان الواقع يعكس عكسها تمامًا: القائد القادم هو الذي يقاتل أمام جنوده، لا خلفهم.

كان السنوار في الميدان، متقدّمًا صفوف من آمنوا بأن القيادة لا تُمارس من بعيد، بل تُثبت بالاقتراب من الخطر. وهكذا انكشفت كذبة الدعاية الإسرائيلية بكاميراتها نفسها، حين أظهرت أن "المختبئ” هو من لا يجرؤ على مواجهة الحقيقة.
ولعل المفارقة الأعمق تكمن في أن بعض قادة العدو أنفسهم وصفوه بـ"صلاح الدين الجديد"، في لحظة عجزٍ روحي قبل أن تكون عسكرية.

قالوها وهم يحاولون تشويه صورته، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن التشبيه كشف ما في وعيهم من خوفٍ تاريخي: خوفٍ من عودة المحرِّر لا من المقاتل. هكذا صنع العدو أسطورته بنفسه، حين شبّه غريمه بمن حرّر القدس قبل تسعة قرون.

وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى: الاحتلال أراد من الصورة أن تُطفئ رمزية السنوار، فحوّلها إلى نار جديدة في الذاكرة. فكما خلدت صورة "غيفارا” بقبعته، خُلّد السنوار بعباءته. والاثنان ماتا في الميدان، لكن أحدهما حمل السلاح باسم الثورة، والآخر حمل التراب باسم الوطن.

إن "عباءة التراب” لم تكن غطاء موت، بل ولادة جديدة للرمز الفلسطيني المقاوم. ففي زمنٍ يختلط فيه الخبر بالوهم، تبقى التفاصيل الصغيرة — لون عباءة، نظرة أخيرة، غبار على الوجه — هي التي تصنع التاريخ الحقيقي، لا البيانات العسكرية.
…وهكذا، حين انطفأت الكاميرات ظنّ العدو أنه أنهى المشهد، فإذا به يصنعه.

لم يحتج يحيى السنوار إلى جنازة رسمية ولا إلى موكب من المبايعين؛ عدوّه نفسه هو من قدّم له أعظم جنازة على وجه الأرض — موكب من الدبابات والطائرات والمدافع أحاط بجثمانه الطاهر، كأنّ الأرض كلّها تؤدّي له التحية الأخيرة.

مشهد لم يُمنح لأي زعيمٍ في هذا العالم، لأن الذين يُخيفون أعداءهم حتى بعد رحيلهم… لا يُدفنون، بل يُشيَّعون في وجدان الشعوب إلى الأبد.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير