رحلة الملك وولاية العهد: كيف يتحرّك الأردن في أخطر مرحلة من خرائط ما بعد غزة؟.
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
في اللحظة التي يوقّع فيها الملك مرسومًا بتكليف وليّ العهد بمهام النيابة، يكون قد اتخذ فعلًا سياسيًا كاملًا، لا مجرد إجراء بروتوكولي. في دول مثل الأردن، لا يُقاس الاستقرار بوجود الملك في القصر أو سفره خارجه، بل بقدرة الدولة على أن تعمل وفق دستور واضح، وتسلسل سلطات لا ينهار عند أوّل اهتزاز. لهذا، فإن خروج الملك عبدالله الثاني في رحلة لم تُعلن تفاصيلها كاملة، وتزامنت مع تفويض ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله بإدارة الشأن الداخلي، ليس حدثًا منفصلًا عن سياق أوسع، بل جزء من مرحلة إعادة ترتيب عميقة تتجاوز عمّان إلى غزة وتل أبيب وواشنطن والرياض، وتمتد حتى ممرات الغاز في شرق المتوسط والمشاريع الاقتصادية العابرة للقارات.
من السهل أن ينشغل الرأي العام بسؤال "أين الملك؟". لكن السؤال الأهم في العلوم السياسية هو: ماذا يجري بينما الملك خارج الصورة المباشرة؟ وما الذي يعنيه أن يتولى ولي العهد إدارة الداخل في لحظة إقليمية ملتهبة، تُعاد فيها هندسة أدوار الدول وحدود القوة وترتيب ملفات القضية الفلسطينية من جديد؟ حين وُصفت رحلة الملك بأنها "خاصة"، وحين جرى تفعيل ولاية العهد وفق الأصول، كان ذلك مؤشرًا مزدوجًا: من جهة، تأكيد أن الدولة تعمل بمؤسسات لا تتوقف على وجود الشخص في العاصمة، ومن جهة أخرى، إشارة إلى أن ما يُبحث خارج البلاد أثقل من أن يُدار في إطار الزيارات المعلنة والخطابات المكرّرة.
المشهد الإقليمي الذي خرج فيه الملك في هذه الرحلة يمكن تلخيصه في ثلاث دوائر متداخلة. الأولى، دائرة غزة وما بعد الحرب: نقاش مفتوح حول من يدير القطاع، وكيف يُمنع التهجير، وما شكل "اليوم التالي" بين أمن إسرائيل وحقوق الفلسطينيين. الثانية، دائرة إعادة توزيع الأدوار العربية: مصر والسعودية وقطر والأردن أمام استحقاق الاختيار بين أن تكون شريكة في صياغة الحل أو متلقية لنتائجه. الثالثة، دائرة أوسع تشمل الغاز في شرق المتوسط، والممرات الاقتصادية الجديدة التي تربط الهند بالخليج وأوروبا، وما يعنيه ذلك من إعادة وزن لموقع إسرائيل والأردن وسوريا وتركيا في خريطة النفوذ.
في ملف غزة تحديدًا، كانت الأردن واضحًا خلال الأشهر الماضية: لا لأية صيغة تهجير، لا لـ"وطن بديل"، ولا لتحويل المملكة إلى مخزن ديموغرافي يحل أزمات غيره. في المقابل، تقترح الولايات المتحدة وإسرائيل ترتيبات ما بعد الحرب تقوم على إدارة انتقالية طويلة، بدولة فلسطينية "مؤجلة"، وسلطة محلية منزوعة السلاح تقريبًا، مع مشاركة عربية متفاوتة بين الأمن والإعمار والغطاء السياسي. تُطرح على الطاولة صيغة ترى في مصر حارسًا للحدود، وفي قطر ممولًا رئيسيًا للإعمار، وفي السعودية مظلة سياسية كبرى، وفي الأردن شريكًا أمنيًا محتملًا لتدريب قوات فلسطينية أو المساهمة في بناء جهاز أمن داخلي في غزة أو الضفة. هنا تحديدًا يتحول سفر الملك من مسألة حضور شخصي إلى جزء من معركة تعريف "وظيفة الأردن" في الترتيب الجديد: هل هو مجرد حارس حدود أم طرف سياسي لا تُصاغ تسوية فلسطينية من دونه؟
في لحظة كهذه، يصبح من الطبيعي أن يتحرك رأس الدولة خارج البلاد، بينما يتولى ولي العهد إدارة الداخل، في توزيع أدوار يجمع بين الاستقرار الدستوري ومجال الحركة الخارجي. فالاستحقاق المطروح ليس شكليًا، بل وجودي: إذا قُبل سيناريو يجعل الأردن جزءًا من إدارة أمنية بلا أفق دولة فلسطينية حقيقية، سيجد نفسه محاصرًا بين ضغط ديموغرافي محتمل، وحدود ملتهبة، وملف لاجئين يبقى مفتوحًا لعقود أخرى. وإذا تمكّن من تثبيت معادلة تختلف، تركز على دولة فلسطينية على حدود 1967، وضمانات دولية لوقف التهجير، ودور اقتصادي–سياسي لا يختزله في الأمن فقط، فإنه يكون قد حوّل موقعه من دولة "تمتص الصدمات" إلى دولة تشارك في رسم قواعد اللعبة.
في الخلفية، لا يمكن فصل هذا كله عن حالة إسرائيل نفسها. بعد حرب غزة الطويلة وما رافقها من اهتزاز داخلي، باتت تل أبيب أقل قدرة على الحسم العسكري، لكنها لا تزال قادرة على منع الآخرين من الحسم أيضًا. هي لا تريد دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولا تريد في الوقت نفسه انهيارًا شاملًا في غزة يفتح باب الفوضى على حدودها. لذلك تميل إلى إدامة وضع وسط: لا سلام نهائي، لا حرب شاملة، لا دولة مكتملة ولا اختفاء للملف. هذا الوضع يريح اليمين الإسرائيلي لأنه يؤجل التنازل السياسي، لكنه يزيد كلفة الإدارة الأمنية والاقتصادية. الأردن، بحكم موقعه وحدوده وتركيبته السكانية، هو أول من يتأثر باستمرار هذه المنطقة الرمادية، ولذلك يتعامل مع ملف ما بعد غزة باعتباره ملفًا داخليًا بقدر ما هو خارجي.
أمام هذا المشهد، تتبلور ثلاثة أدوار محتملة للأردن في السنوات المقبلة. الأول، دور حارس أمن الحدود: استمرار العلاقة مع إسرائيل ضمن اتفاقية السلام، وضبط الحدود، ومنع الفوضى من التسرب من سوريا وفلسطين، مقابل حزمة من المساعدات والتسهيلات الاقتصادية. هذا الدور أقل مخاطرة على المدى القصير، لكنه يعني استنزافًا مستمرًا بلا مكاسب سياسية حقيقية. الثاني، دور الشريك في التسوية: دخول الأردن في ترتيبات واضحة لليوم التالي في غزة والضفة، كطرف يشارك في بناء مؤسسات أمنية وإدارية فلسطينية، مقابل تثبيت مرجعية حل الدولتين، وضمانات حول القدس واللاجئين والحدود. هذا الدور يرفع وزن الأردن السياسي والاقتصادي، لكنه يفتح ملفات حساسة تتعلق بالهوية والتمثيل الفلسطينيين. الثالث، دور "قائد التوازن الإقليمي": أي أن يتحول الأردن إلى عقدة ربط بين الخليج وأوروبا، بين مصر والشام، وبين العالم العربي والغرب، مستفيدًا من موقعه في الممرات الاقتصادية الجديدة ومن شرعيته الدينية في ملف القدس، دون أن يُختزل في وظيفة أمنية أو اقتصادية ضيقة. هذا الخيار صعب ويتطلب قدرة عالية على المناورة بين واشنطن والرياض وأنقرة وطهران، لكنه وحده الذي يمنح المملكة هامش حركة استراتيجي طويل الأمد.
رحلة الملك الأخيرة يمكن قراءتها في ضوء اختبار هذه الأدوار. وجود ولي العهد في عمّان على رأس المشهد الداخلي يبعث برسالة استقرار مؤسسي، ويسمح في الوقت نفسه بأن يتحرك الملك على خط المفاوضات غير المعلنة، سواء مع الأميركيين أو الأوروبيين أو العواصم العربية الرئيسية. هذا النوع من التحرك، الذي لا تُعلن تفاصيله في حينه، يُستخدم عادة حين يكون المطلوب صياغة "تفاهمات إطار" لا ترضى الأطراف عن كشفها قبل اتضاح قابلية تنفيذها. من هنا، يصبح التركيز على مكان وجود الملك أقل أهمية من رصد ما سيتغير بعد عودته: هل ستتبلور لهجة أردنية أكثر صلابة في رفض أي ترتيبات تمسّ بالضفة والقدس؟ هل سيظهر تناغم عربي أكبر حول رفض التهجير وفرض حل اقتصادي بديل عن الدولة؟ أم أن الغموض سيستمر، بما يعنيه ذلك من أن التفاوض لم يصل إلى معادلة قابلة للصياغة النهائية؟
ما يزيد تعقيد الصورة أن ملف غزة ليس معزولًا عن ملفات أخرى تتشكل بالتوازي، بدءًا من سوريا حيث الجنوب المضطرب يشكل تهديدًا مستمرًا للأمن الأردني، مرورًا بلبنان والحدود الشمالية لإسرائيل، وصولًا إلى خرائط الغاز في شرق المتوسط والممرات الجديدة التي تربط الهند بالخليج وأوروبا. إسرائيل تحاول أن تجعل من نفسها البوابة الأساسية لغاز المنطقة نحو أوروبا، ولممر الهند–الخليج–أوروبا، بحيث يصبح استقرارها شرطًا لاستقرار إمدادات الطاقة والتجارة، ما يمنحها ورقة ضغط إضافية أمام الغرب. الأردن، في المقابل، يملك فرصة التحول من مجرد "ممر تابع" إلى "محور ربط متعدد المنافذ" إذا نجح في تنويع مساراته مع مصر وربما مع سوريا لاحقًا، وفي ربط دوره في التسوية السياسية بدوره في مشاريع الطاقة والممرات الاقتصادية.
في الجانب الفلسطيني الداخلي، لا يمكن بناء أي ترتيبات جدية دون حسم موقع الفاعلين على الأرض، وخصوصًا حماس. الإقصاء الكامل للحركة غير واقعي في المدى المنظور، والإبقاء عليها بصيغتها المسلحة الحالية غير مقبول إسرائيليًا ودوليًا، والدمج القسري لها في سلطة فلسطينية ضعيفة بلا مشروع واضح يهدد بانفجار جديد. مصلحة الأردن، كما تبدو من سلوكه السياسي، هي وجود تمثيل فلسطيني موحد أو متماسك على الأقل، يمنع تفتيت القرار بين غزة والضفة، ويحمي ملف القدس واللاجئين من أن يتحول إلى أوراق منفصلة تُستخدم في مساومات ظرفية. هذا يتطلب دعمًا لمسار إصلاح داخلي فلسطيني، لا يمكن للأردن أن يتبناه علنًا بوصفه "وصاية"، لكنه لا يستطيع تجاهله لأنه يرتبط مباشرة بأمنه القومي.
على المدى الأبعد، تُطرح مسألة "الدولة الفلسطينية الممكنة" بوصفها سؤالًا عمليًا لا شعاريًا: أي نوع من الدولة يمكن أن يمر في موازين القوى الحالية؟ الإطار الأكثر واقعية في منظور كثير من العواصم هو دولة منزوعة السلاح الثقيل، بسيادة منقوصة على المعابر والأجواء، ولكن مع اعتراف دولي واضح وحدود متفق عليها، ووضع خاص للقدس يضمن استمرار الوصاية الهاشمية على المقدسات، وربط اقتصادي مع الأردن ومصر وإسرائيل في الوقت نفسه. هذا النموذج لا يرضي أقصى سقف فلسطيني، ولا يطمئن أقصى يمين إسرائيلي، لكنه قد يكون أقرب ما يمكن الوصول إليه خلال 10–15 سنة إذا توفر قرار دولي بوقف إدارة الصراع والانتقال إلى تسويته. في هذا السيناريو، يكون للأردن دور مركزي في ضمان الاستقرار على حدوده، وفي إعادة تعريف علاقته القانونية والسياسية مع الفلسطينيين على أراضيه، وفي الاستفادة من مشاريع الإعمار والممرات الاقتصادية المرتبطة بالدولة الجديدة.
أما اقتصاد الأردن ذاته، فإنه يقف عند مفترق طرق يتصل مباشرة بهذه الملفات. فالمملكة تعاني من محدودية الموارد وارتفاع الدين والبطالة، لكنها تمتلك عناصر قوة: موقع جغرافي في قلب الممرات، واستقرارًا أمنيًا نسبيًا، وشبكة علاقات متوازنة مع الخليج وأوروبا والولايات المتحدة. إذا نجحت في تثبيت دور سياسي واضح في ملفات فلسطين وغزة والقدس، فبإمكانها تحويل هذا الدور إلى مكاسب اقتصادية مستدامة عبر عقود إعمار، واستثمارات في البنية التحتية، ورسوم عبور في الممرات، وفرص عمل لليد العاملة الأردنية. وإذا فشل التفاوض وظل دورها محصورًا في امتصاص الأزمات، فستبقى تعتمد على المساعدات المشروطة، عرضة لتقلب المزاج الدولي، وتحت ضغط داخلي متزايد.
في ضوء ذلك كله، تتحول رحلة الملك من سؤال عابر في الإعلام إلى جزء من لوحة أكبر: دولة تحاول أن تمنع تهديدًا وجوديًا يتمثل في تحويلها إلى وطن بديل، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تثبيت مكانها في نظام إقليمي جديد يتشكل بصمت. وجود ولي العهد في موقع النيابة يذكّر بأن الأردن ليس نظامًا شخصيًا هشًا، بل بنية حكم تعلّمت من تاريخها أن البقاء في هذه المنطقة لا يتحقق بالاندفاع الانفعالي ولا بالجمود، بل بقراءة دقيقة للخرائط وتحريك محسوب للقطع على رقعة شطرنج معقدة. ما سيحدد نجاح هذه الرحلة السياسية ليس ما كُتب عنها أثناء الغياب، بل ما سيتغير في شكل الدور الأردني بعد عودة الملك، وحجم ما سيتمكن من تثبيته من خطوط حمراء وما يمكن أن يحوّله إلى فرص.
بقلم: زياد فرحان المجالي
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك:
https://www.facebook.com/profile.php?id=61580196836145&mibextid=ZbWKwL








