jo24_banner
jo24_banner

وصفي التل… حين يمشي الرجلُ ويظلّ صدى الخطوات حيًّا في التراب

زياد فرحان المجالي
جو 24 :
 بعض الرجال يرحلون ولا يتركون خلفهم إلا صورًا وأختامًا قديمة؛
وبعضهم — مثل وصفي التل — يمضي تاركًا أثرًا يشبه النهر… لا يُرى دائمًا، لكنه يروي الأرض إلى يومنا هذا.
في الثامن والعشرين من تشرين الثاني، لا يستعيد الأردنيون حادثة اغتيال فقط، بل يستعيدون روحًا كاملة كانت تمشي في جسد رجل واحد.
رجلٌ لم يكن في حياته قصيدة، لكنه صار بعد رحيله أجمل ما قيل في معنى الدولة.
وصفي التل… لم يكن سياسياً بالمعنى الشائع، بل كان حدسَ الفلاح حين يقرأ وجه الأرض،
وضميرَ المقاتل حين يواجه العاصفة،
وذكاء المثقف حين يضع الكلمات في مكانها الصحيح…
وحين تجتمع هذه العناصر في رجل واحد، يصبح الوطن محظوظًا، والتاريخ ممتنًا، والخصوم قلقين.
يولد الفلاح ولا تخونه الأرض
كان وصفي يفتخر بأنه ابن طبقة الفلاحين؛
لا من باب التجمّل أو الاستعارة، بل لأن الفلاح هو الإنسان الوحيد الذي يتعلم من الأرض درسًا لا يتغير:
الزرع لا يكذب، والسماء لا تخون، واليد التي تعمل لا تخاف.
من هنا جاءت رؤيته للزراعة، لا كمهنة تكميلية، بل كأساس لهيبة الدولة.
كان يقول دائمًا: "من لا يزرع… لا يملك قراره.”
ولهذا حمل وزارة الزراعة إلى جوار الدفاع ورئاسة الوزراء، كما يحمل الأب طفله الأصغر.
كان يرى في القمح قيمة لا تختلف عن قيمة العلم، وفي الشجرة جزءًا من السياسة، وفي الماء خطوطًا حمراء لا تُمسّ.
رجلٌ يشبه الأردن… شديدًا ولطيفًا في اللحظة نفسها
لم يكن وصفي خطيباً مفوّهاً، ولا صاحب عبارات منمّقة، لكنه كان يمتلك هبة لا يملكها كثيرون:
أن تتأكد من صدقه بمجرد أن ينظر إليك.
كان كلامه جافًا أحيانًا…
لكن صدقه كان رطبًا كغيمة في تموز.
وكان صلبًا في موقفه…
لكن قلبه يلين حين يمرّ على مزرعة، أو يرى فلاحًا يشدّ حبلاً أو يرفع سطل ماء.
هذه الازدواجية الجميلة — القوة والرقة معًا — جعلته محبوبًا بين الناس، ومخيفًا لدى من أرادوا أن تكون الدولة سلعة، وأن تكون المناصب ممرًّا سريعًا إلى الامتيازات.
هيبة بلا استعلاء… وعدالة بلا خصومة
اعتمد وصفي في إدارته للدولة على ميزان بسيط:
العدل قبل الولاء، والعمل قبل الكلام، والكرامة قبل كل شيء.
لم يكن يحب الضجيج، ولايهوى أن يمشي محاطًا بهالات الأمن.
كان يمشي كأن المكان يعرفه، وكأن الهواء يفسح الطريق لخطواته دون أن يُنادى عليه.
وحين كان يوقّع قراراته، لم يكن يبحث عن رضا أحد، ولا عن صفقة مستترة، بل عن شيء واحد فقط:
أن يبقى الأردن قائمًا على قدميه.
ليس شهيدًا فقط… بل مفصلًا في تاريخ الدولة
حين اغتيل وصفي، لم تُغتل حكومة، ولا أُسكت صوت سياسي…
اغتيلت مرحلة كاملة كانت تريد أن تبني دولة لها ملامحها الخاصة:
دولة لا تتكئ على أحد، ولا تستعير قوتها من الخارج، ولا تنحني لرغبات المشهد الإقليمي.
ولذلك بقيت ذكراه ليست بكاءً على رجل، بل نداءً يتكرر كلما احتاج الأردنيون إلى معنى يرفعهم من تحت أثقال الأيام.
لماذا بقي وصفي؟
يبقى السؤال الأخطر:
لماذا ظلّ وصفي في قلب كل جيل، حتى الجيل الذي لم يره ولم يسمع صوته؟
لأن الناس — في أعماقهم — يبحثون عن القائد الذي يشبههم:
الذي يخطئ مثلهم،
ويصيب معهم،
ويعيش كما يعيشون،
ويموت من أجل ما عاش له… لا من أجل ما جمعه.
يبقى وصفي لأن صورته لم تتلوث،
ولأن الناس حين يذكرونه، يشمون رائحة تراب، لا رائحة صفقات.
في حضرة الذكرى… رجل يمشي بيننا
في ذكرى استشهاده، نقف أمام وصفي التل ليس لنستعيد الماضي، بل لنسأل الحاضر:
هل ما زال في الدولة متسعٌ لرجالٍ يمشون بظلّهم فقط؟
هل بقي للبساطة مكان في دهاليز السياسة؟
وهل نستطيع أن نعيد بناء ما حلم به، بالصرامة نفسها، والوضوح نفسه، والضمير نفسه؟
وصفي التل…
لم يكن رجل منصب، ولا حصيلة سيرة ذاتية، ولا لقبًا في الكتب.
كان طبيعة الأردن وهو يتشكل… وشرف الأردني حين يعلو… واسمًا يرفض أن ينطفئ.
رحم الله وصفي التل…
رحم الله الرجل الذي ظل — رغم الغياب — حاضرًا أكثر من كثيرين ما زالوا واقفين.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير