الخليج بين العاصفة والاتزان… كيف يُعاد تشكيل الأمن الإقليمي؟
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
تعيش منطقة الخليج اليوم لحظة حساسة غير مسبوقة منذ انتهاء حرب الخليج الثانية. التوازنات التي كانت تشكل قواعد الأمن الاستراتيجي لم تعد صلبة، لا في طبيعتها ولا في اتجاهاتها ولا في القوى التي تديرها. كانت المعادلة التقليدية تعتمد على ثلاثة أعمدة: الحضور الأميركي كضامن عسكري أول، التحالفات التقليدية بين دول مجلس التعاون، ومسار الاحتواء المزدوج لإيران. لكن السنوات الأخيرة كشفت أن هذه الركائز لم تعد كافية، وأن المنطقة تشهد إعادة تشكيل متسارعة لمفهوم الأمن الإقليمي.
تراجع الحضور الأميركي لم يكن مجرد انسحاب تكتيكي، بل إعادة صياغة للعقيدة الأميركية نفسها، مع توجيه الأولويات نحو آسيا واحتواء الصين، مقابل اعتماد الشرق الأوسط على إدارة عن بعد، تقلل التدخل العسكري المباشر مع الحفاظ على النفوذ السياسي والاقتصادي. هذا التحول خلق فراغًا أمنيًا حاولت قوى إقليمية ودولية ملؤه بطرق مختلفة: من تركيا التي تعيد توسيع حضورها العسكري في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، إلى الصين التي تتقدم كوسيط اقتصادي واستراتيجي، وصولًا إلى روسيا التي تراها ساحة نفوذ جديدة تقلص أثر العقوبات الغربية عليها.
في ظل هذه المعادلة الجديدة، واجهت دول الخليج اختبارًا معقدًا: كيف تحافظ على أمنها القومي في منطقة لم تعد قواعدها التقليدية قائمة؟ ظهرت استراتيجيات متعددة، بعضها يقوم على إعادة بناء منظومة الردع العسكري، وبعضها يركز على الانفتاح السياسي وتخفيف التوترات، وبعضها يسعى لموازنة المسارين. التحوّل الإماراتي نحو قوة تكنولوجية وعسكرية متقدمة، والسياسة السعودية الأكثر استقلالية، والدور القطري كوسيط إقليمي، كل ذلك يمثل ملامح بنية أمنية خليجية جديدة قيد التشكل.
لكن التحدي الأبرز يبقى العلاقة مع إيران، الطرف الجوهري في معادلة أمن الخليج. الصراع الأميركي–الإيراني لم يعد مفتوحًا كما كان، بل تحول إلى مواجهة محدودة تحت سقف، مع مساحات تفاوضية غير معلنة. هذا التحول دفع دول الخليج لإعادة النظر في سياساتها، فظهرت موجات تفاهمات بين الرياض وطهران، ومحاولات صياغة نمط علاقات يقلل احتمال الانفجار ويخلق استقرارًا نسبيًا.
مستقبل الأمن الخليجي لن يُبنى فقط على التسليح أو العقود الاقتصادية، بل على منظومة متكاملة تمكّن الخليج من إنتاج أمنه بنفسه، دون الاعتماد الكلي على وكلاء خارجيين. المعركة الحقيقية هي الانتقال من "أمن مستورد” إلى "أمن مُصمَّم محليًا”، وهي معركة لم تبدأ بعد بكامل قوتها، لكنها قادمة حتمًا، وستشكل المحرك الأساسي للسياسة الإقليمية في العقد المقبل.








