2025-12-10 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عندما يصبح المريض مجرد رقم في الواجهة

حسان التميمي
جو 24 :



كان عليّ أن أدخل المستشفى لا لأطارد تشخيصاً بقدر ما أبحث عن فسحة شفاء، نافذة أمل صغيرة تخبرني أن العلة، أيّاً تكن، تحت السيطرة، لكنني وجدت نفسي، من اللحظة الأولى، في مكان يشبه تلك الصالات التي يجتمع فيها المسافرون العالقون بين رحلتين، واجهات براقة، غرف بديعة الترتيب، وكوادر تمضي وتجيء بثقة الفنادق الكبيرة، وكأن الطب مجرد ديكور، والمرض تفصيل صغير في لوحة واسعة من الأناقة.

بدا المستشفى الفخم والفاخر، في أيامه الثمانية كما البنوك سلطة قائمة بذاتها، لها طقوسها ولغتها وقوانينها غير المكتوبة، وأنا فيها غريب يتعلم الإشارة بدل الكلام، والتوقع بدل الإجابة، والانتظار بدل العلاج.

وفي هذا التناقض، كنت أرى فريق الأطباء -باستثناء طبيب أو اثنين- وغالبا المقيمين معهم بإطلالة خفيفة، مدروسة، أقرب إلى زيارة بروتوكولية لا يُقصد منها سوى إثبات الوجود، يسألك عن الحالة، يستمع في عجالة، يربت بكلمة مختصرة، ثم يغادر تاركاً خلفه ظلالاً من الأسئلة أكثر من أي طمأنة.

لم أكن أعترض على قصر الزمن، بل على قصر الفائدة؛ كنت أحتاج كلمة واحدة واضحة، خطة واحدة، أو حتى جملة كاملة، لكن اللغة كانت مقتضبة إلى حد يجعل المريض يشعر بأنه يلاحق ظلّاً لا إنساناً، ومع مرور الأيام، بدأت أتحول من مريض ينتظر التفسير إلى محقّق يلاحق الخيوط كنت أنزل إلى المختبر لأعرف لماذا سُحبت مني عينة إضافية، وأتجوّل بين الأقسام مستفسراً عن نتيجة لم يخبرني بها أحد، وأقرأ تقاريري بنفسي لأكتشف فجأة وكأن الأمر معلومة هامشية أن هناك دماً في البول، أو مؤشراً لنزيف ما، دون أن يكلّف أحد نفسه عناء الشرح أو التفسير.

وهنا، في قلب هذه المفارقة، ولدت الكوميديا السوداء الهادئة فقد كنت في المستشفى، ومع ذلك احتجت إلى طبيب من خارج المستشفى لأفهم ما يجري، كأن الطب نفسه انقسم بين من يفحص، ومن يشرح، ومن لا يقوم بواجب أي منهما طالما أن العاقبة مأمونة الجانب.

في ظل هذا الانقسام، وفي أحد الأيام، طُلبت لي خزعة جلدية ضرورية، وبعد سلسلة من الاتصالات والموافقات، وصلت إلى الغرفة المخصصة، وتم التخدير الموضعي، واستعد الفريق، ثم اكتشفنا في لحظة صمت غريبة بعد اتصال الطبيب مع المختبر لتحضير استلام العينة، أن المستشفى لا يجري هذا الفحص أصلاً، لم يحتج الأمر غضباً مني قد يقودني إلى ما هو أسوأ فالفم مليء ماء وحجارة؛ كان يكفي أن أصغي إلى المفارقة بذاتها: كيف تتقدم الطلبات وتصدر الموافقة ويُفتح الملف ويُعدّ المريض، ثم لا يكون الفحص موجوداً من الأساس؟ المشهد لم يحتج تعليقاً، فقد كان بحد ذاته تعليقاً مريراً على منظومة يتحرك فيها كل شيء إلا الهدف.

الفحص الثاني لم يكن متوفراً، لكن من لطف الله أنه لم يتطلب تخديراً أو إجراءات معقدة، أما الثالث الذي خرجت ورفضت إجراؤه، فقد بدا وكأنه مشهد من يوميات لا تخلو من مفارقات مؤلمة، فاليوم الأول مضى في انتظار طويل بحجة أن الموافقة لم تصل، رغم أنها كانت موجودة منذ ساعات؛ وفي اليوم الثاني، ظلّت الأسئلة حول تعليمات الصيام والأدوية بلا إجابة واضحة، سوى عبارة متكررة: "نسأل الدكتور وبرجعلك"، أما اليوم الثالث، فقد انتهى بصيام طويل واكتشاف بالصدفة بعد انتظار 8 ساعات أن الطبيب لم يحضر بسبب وعكة صحية، تاركاً المريض أمام صمتٍ يضاعف الوقت المهدور والتساؤلات المتراكمة.

والمفارقة الأخيرة كانت حين خرجت ووجدت دواء الأنسولين مسجلاً ضمن جرعاتي، بينما لم أتناول منه شيئاً؛ وكأن مجرد وجوده على الورق يكفي لإثبات اكتمال الصورة، دون أن يعكس حقيقة الحالة الفعلية.

في ظل هذا العبث، تكررت الظاهرة في فحوصات أخرى وإجراءات أخرى بسيطة مثل ترك الابرة في يد المريض حتى التهبت وعندما طلب الطبيب مرهما وكمادات جاء المرهم بعد 6 ساعات والكمادات لليوم لم تأت إلى اليوم، فصار الأمر بالنسبة لي أقرب إلى لعبة اختيار مغلف لا تعرف محتواه، كل خطوة تفتح باباً جديداً، وكل باب يقود إلى دهليز آخر، بينما يبقى المعنى الطبي غائباً، أو مؤجلاً، أو معلقاً بين قسم وآخر، وورقة وأخرى، وإيماءة موظف ونظرة طبيب لا تكتمل.

كانت إقامتي أشبه بقراءة كتاب بلا فصول: صفحات كثيرة، تفاصيل كثيرة، لكن من دون حبكة، وفي هذا الفراغ وعندما بلغ العبث مستوى يستعصي على التعايش، قررت الخروج، لم يكن هروباً من العلاج، بل من فراغه.

كتبت في ورقة الخروج أن السبب هو الإهمال وعدم رغبتي في تحمل تكاليف لا معنى لها، وطلبت أن يدوَّن ذلك بوضوح، وكان خروجي، بصورة ما، محاولة لاستعادة صوتي في مكان بدا فيه صوت المريض آخر ما يُسمع.

الذي قاد إلى هذا القرار السيادي، غادرت المستشفى، لكن الشعور العالق لم يغادرني، كنت كمن خرج من صالة عبور من دون أن يصعد إلى أي طائرة، ما زلت أحتاج إلى علاج، وما زلت لا أعرف إلى أين أتجه، لكنني أعرف أن الثقة التي فقدت ليست أمراً يسيراً فمن المؤلم أن يدرك المريض أنه كان يقيم في منشأة كاملة التجهيز، لكنها غير مكتملة الروح، وأن الطب كان حاضراً في كل شيء إلا في صلب ما يحتاجه.

في هذا الفقدان، والأهم هنا أن نظاماً صحياً يقدّم نفسه كواجهة علاجية متقدمة، يتحمّل مسؤولية مضاعفة: ليس فقط أن يمتلك الإمكانات، بل أن يعرف كيف يستخدمها، وأن يتأكد أنها موجودة أصلاً، فالطب، مهما بدا أنيقاً على السطح، ينكشف ضعفه عند أول اختبار بسيط: فحص غير متوفر، توجيه غائب، متابعة مقطوعة وفوقية لا نراها إلا هنا ولي تفسير خاص لا أقوله على العلن عندها تتهاوى الواجهة، وتبقى الحقيقة وحدها أن العناية ليست بناية، بل منظومة تبدأ بالمسؤولية وتنتهي بالإنصات.

في هذه المنظومة، أفكر الآن في التجربة كما يفكر المرء في رحلة لم تبدأ ولم تنتهِ، سبعة أيام وثامنهم ليلهم بدت طويلة بما يكفي لتكشف أن العطب لم يكن في غرف المستشفى، بل في طريقة النظر إلى البشر وطريقة إدارة الزمن داخله؛ زمن يمر على الطبيب سريعاً، وعلى المريض ببطء شديد، وكلاهما يبحث عن لحظة تشرح ما لا يُشرح.

وهكذا، خرجت من ذلك المكان الموحش البارد وأنا أشعر بما يشعر به المسافر في مطار لا يعرف إلى أين تتجه الطائرات: أن البقاء مؤقت، لكن العالق أطول بكثير مما يحتمل، وإلى أن أجد جهة طبية تمنحني حقي في المعرفة قبل العلاج، سأظل أتذكر تلك الأيام كأنها جزء من قصة لا تُروى لدراميتها، بل لبرودها، ولأنها تجعل المريض يدرك أن أخطر ما قد يواجهه ليس المرض نفسه، بل شبكة الإجراءات التي تتعامل معه كرقم او ضحية أو ربما معتقل، لا كإنسان يبحث عن شفاء.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير