سوريا.. ماذا يريد شعبها؟ وما دور العرب في رسم ملامح الغد؟
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
لم تعد سوريا اليوم مجرد دولة خارجة من حرب طويلة، بل ساحة تتداخل فيها الأسئلة الكبرى: ماذا يريد السوريون من دولتهم المقبلة؟ ما شكل النظام الذي يستطيع أن يحمل بلدًا أنهكته الجبهات وفتتته التدخلات؟ وما هو الدور العربي في إعادة هندسة مستقبل سوريا بعدما تحولت لسنوات إلى ملعب يتقاطع فيه نفوذ الآخرين أكثر مما تتقاطع فيه مصالح أهلها؟
منذ سقوط النظام، يعيش السوريون لحظة انتقال صعبة بين الماضي والمستقبل. فالدولة التي عرفوها لعقود لم تعد موجودة، والمؤسسات التي صمدت ظاهريًا انهارت فعليًا من الداخل، والناس الذين تعلموا الصبر على الألم باتوا يبحثون عن شيء واحد: معنى الدولة. الدولة التي تمنح الأمان قبل الخبز، وتمنح العدالة قبل السياسة. فالسوري الذي فقد بيته وعمله وأرضه لا يريد صراعًا جديدًا ولا شعارات ضخمة، بل يريد دولة يمكن الوثوق بها، دولة لا تُدار بالرهانات الخارجية بل بإرادة الداخل.
ومع أن السوريين يختلفون في التفاصيل، إلا أن جوهر مطالبهم يكاد يكون واحدًا: دولة قانون، لا دولة أجهزة. دولة مؤسسات، لا دولة أشخاص. دولة يحكمها دستور واضح، ويقف فيها الجيش على مسافة واحدة من الجميع. دولة قادرة على استعادة أبنائها في الخارج، وفتح أبواب المستقبل لأبنائها في الداخل.
غير أن الطريق نحو هذه الدولة لا تحدده الرغبات فقط، بل تحدده أيضًا التوازنات الإقليمية. فطوال سنوات الحرب، كان العرب غائبين عن سوريا، فتقدمت إيران وتركيا، وفتحت روسيا الطريق، واستغلت إسرائيل الانهيار الأمني. كل هذه القوى وضعت بصمتها على الخريطة السورية، وغياب الدور العربي لم يكن فراغًا سياسيًا فحسب، بل كان السبب الرئيس في فقدان التوازن داخل البلاد.
اليوم، يعود العرب إلى الملف السوري من موقع مختلف. لم تعد العواصم العربية تنظر إلى دمشق كملف أمني يجب احتواؤه، بل كركن أساسي في توازن المنطقة. مصر ترى أن استقرار سوريا امتداد طبيعي لاستقرارها، والسعودية تدرك أن غياب الدولة السورية خلق فراغًا استغلته القوى غير العربية، والأردن الذي وجد نفسه على حدود النار يعرف أن أي مستقبل دون دولة مركزية في سوريا هو تهديد مباشر لأمنه. وهذا الإدراك العربي الجماعي يمنح سوريا فرصة لإعادة بناء جسورها مع محيطها الطبيعي.
ومع هذا، لا يزال السوريون يخشون أن تتحول بلادهم مرة أخرى إلى ميدان مساومات. لذلك فهم يريدون دورًا عربيًا يحميهم، لا دورًا يفرض عليهم شكل الدولة. ويريدون دعمًا ينهض بالاقتصاد، لا يضعهم تحت وصاية سياسية. ودورًا يعيد بناء الجيش كمؤسسة وطنية، لا كأداة في صراع المحاور. ويريدون قبل كل شيء، شبكة أمان عربية تحول دون سقوط البلاد مجددًا في قبضة التدخلات الخارجية.
التحديات داخل سوريا ليست بسيطة. فاقتصاد محطم، عملة منهارة، بطالة واسعة، مؤسسات مُنهكة، وملف لاجئين يعد الأكبر عالميًا. لكن السوريين الذين تعبوا من الحرب، يعرفون أن إعادة الإعمار ليست جدرانًا إسمنتية، بل إعادة بناء الإنسان السوري نفسه. وهذا يتطلب مصالحة وطنية ناضجة، تعترف بالأخطاء دون أن تغرق في الانتقام، وتفتح صفحة جديدة دون أن تمحو الجراح.
اللاجئون بدورهم — وهم أحد أهم مفاتيح المستقبل — يحتاجون لضمانات عربية مباشرة تسبق العودة: أمن شخصي، حماية اجتماعية، خطة إسكان، ضمان عمل، وقضاء مستقل لا يعاقب الناس على آرائهم أو ماضيهم. وهنا يظهر الدور العربي مرة أخرى باعتباره الضامن الحقيقي لمسار العودة، خاصة أن الدول العربية تمتلك القدرة والمؤسسات والخبرة التي تجعل إعادة الإدماج ممكنة.
وفي مقابل كل هذه التحديات، يمتلك السوريون قوة داخلية لا يمكن تجاهلها. فالشعب الذي صمد عقدًا كاملًا تحت النار، قادر على بناء دولة أفضل إذا وجد مشروعًا حقيقيًا وبيئة آمنة للعمل. لكن هذه القوة تحتاج إلى شريك، والشريك الطبيعي هو العالم العربي، بحكم التاريخ والجغرافيا واللغة والمصير المشترك.
ومع أن مستقبل سوريا لا يزال مفتوحًا على أكثر من سيناريو، فإن مسارًا واحدًا يبدو الأكثر واقعية: دولة سورية جديدة، ترتكز على دعم عربي، وتوازن بين مكوناتها، وتعيد وصل ما انقطع بينها وبين شعبها، وتعيد تموضعها داخل النظام العربي بدل الانجرار وراء مشاريع الآخرين. فالعرب اليوم يدركون أن استعادة سوريا هي استعادة لتوازن المنطقة كلها، وأن عودتها إلى حضنها الطبيعي ليست خطوة عاطفية بل استراتيجية.
السوريون يريدون مستقبلًا بلا خوف، ودولة بلا سجون سياسية، وسياسة لا تصنع الانقسام، واقتصادًا يعيد الكرامة قبل الأرباح. يريدون دولة تُبنى، لا دولة تنتظر معونة. دولة تعيش معهم لا عليهم.
والعرب، إذا أرادوا سوريا قوية، عليهم أن يكونوا شركاء في هذه الإرادة، لا مراقبين لها. ففي النهاية، سوريا ليست ملفًا سياسيًا، بل شعب يبحث عن وطن… ووطن يبحث عن نفسه.








