jo24_banner
jo24_banner

الثمن الخفي للحرب داخل إسرائيل: جراح النفس، فقراء الحرب، والجنود المنسيّون

زياد فرحان المجالي
جو 24 :


في الحروب، تتصدّر العناوينَ صورُ الجبهات والخرائط والبيانات العسكرية. لكن الوجه الأعمق لأي حرب لا يُقاس بعدد الغارات ولا بمساحات الأراضي، بل بما يتركه الشرخ في داخل المجتمع الذي يخوضها: في نفس الإنسان، في لقمة عيشه، وفي قدرته على الاستمرار كجماعة متماسكة. هذا بالضبط ما تكشفه المعطيات الإسرائيلية الأخيرة بعد حرب السابع من تشرين الأول؛ حربٌ تحاول إسرائيل أن تقدّمها بوصفها ضرورة أمنية، بينما تكشف الأرقام أنها تحوّلت إلى استنزاف داخلي عميق يضرب المجتمع والجيش معًا.

أول ما يلفت الانتباه هو الانفجار في أعداد المصابين نفسيًا داخل الجيش الإسرائيلي. فوزارة الأمن تتحدث عن أكثر من ٨٢ ألف مصاب يتلقّون العلاج في قسم إعادة التأهيل، بينهم ٣١ ألفًا يعانون من إصابات نفسية واضطرابات ما بعد الصدمة، و٢٢ ألفًا انضموا بعد السابع من أكتوبر وحده، ٥٨٪ منهم بإصابة نفسية خالصة. هذه ليست أرقامًا تقنية، بل خريطة صامتة لجيش يعود من الميدان وهو يحمل حربًا ثانية في داخله؛ حربًا لا يراها أحد، لكنها تستمر لسنوات بعد توقف إطلاق النار.

هذا الضغط الهائل دفع المنظومة الإسرائيلية إلى رفع ميزانية إعادة التأهيل بنسبة ٥٣٪ لتصل إلى ٨,٣ مليار شيكل، نصفها تقريبًا مخصّص لمتضرري النفس. تضاعف عدد الجلسات العلاجية، وارتفعت نسب التوجّه إلى الخطوط الهاتفية للدعم، وجرى تطوير فرق تدخل تصل إلى منازل المصابين عند الأزمات الحادة. غير أن السؤال الأهم ليس حجم الموارد، بل طبيعة الجرح نفسه: إلى أي حد تستطيع دولة قامت على فكرة «الجيش الذي لا يُقهر» أن تعترف بأن هذا الجيش بات مثقلًا بآلاف المقاتلين الذين فقدوا القدرة على النوم، أو العودة إلى حياتهم العادية، أو حتى الرغبة في الاستمرار؟

على الموازاة، تأتي ظاهرة «فقراء الحرب» لتكشف أن الثمن ليس نفسيًا فحسب، بل اقتصادي–اجتماعي أيضًا. تقرير الفقر لعام ٢٠٢٥ في إسرائيل يشير إلى أن الحرب أدخلت شرائح واسعة من المجتمع إلى دائرة العوز، أو دفعت بها أعمق داخلها. كل مواطن يتحمّل – وفق التقرير – زيادة تقارب ٣٥٠٠ شيكل في النفقات السنوية، وكل أسرة نحو ٩٠٠٠ شيكل إضافية. تكلفة المعيشة الدنيا للفرد ارتفعت إلى أكثر من ٥٥٠٠ شيكل، وللأسرة إلى أكثر من ١٤ ألفًا، في قفزة تتجاوز ٥٪ خلال سنة واحدة فقط.

انعكاس هذا الضغط المالي يظهر أولًا في الأمن الغذائي؛ إذ ارتفعت نسب انعدام الأمن الغذائي بأكثر من ٢٧٪ بين العائلات، وبنحو ٢٩٪ بين الأفراد، وربع المحتاجين تقريبًا بدأوا الاعتماد على المساعدات الغذائية في السنتين الأخيرتين فقط، أي في ظل الحرب ومضاعفاتها. الأخطر أن الفقر لم يعد حكرًا على من هم خارج سوق العمل؛ فـ٨٣٪ من الأسر المحتاجة فيها على الأقل مُعيل واحد يعمل، ومع ذلك تبقى تحت خط الفقر. هذا يعني أن بنية الاقتصاد نفسه لم تعد قادرة على حماية العاملين من الانزلاق إلى العوز، وأن الحرب عمّقت هشاشة الطبقات الوسطى والدنيا معًا.

في قلب هذه الصورة، تظهر مأساة المسنين بشكل خاص؛ أكثر من ٩١٪ من كبار السن الذين يعتمدون على المساعدات يقولون إنهم عاجزون عن تمويل الرعاية أو المساعدة المنزلية التي يحتاجونها. وعلى المستوى النفسي، يبلّغ ما يقرب من نصفهم عن تدهور في حالتهم بعد الحرب. هنا لا نتحدث عن جنود في الميدان، بل عن جيل كامل يعيش شعور الخسارة الاقتصادية والقلق الوجودي، في دولة تقول إنها تخوض حربًا من أجل «الأمن».

الطبقة الثالثة من الصورة تتجسد في شهادات الجنود والجرحى أنفسهم. فالتقارير الإسرائيلية عن يوم التقدير لجرحى الجيش تكشف عن موجة انتحار متصاعدة؛ زيادة بنسبة ٥٦٪ في الانتحار بين الجنود منذ اندلاع الحرب، ومحاولات انتحار تقارب ٢٨٠ حالة في سنة ونصف، انتهت نحو ٦٠ منها بالموت. في شهادات بعض المقاتلين نقرأ جملة موجعة: «الأسـرى يعودون، الجميع منشغل بهم، ونحن، الجرحى الذين هنا، تُركنا». هذا الشعور بعدم الانتماء، وبأن الدولة احتاجت إلى الجندي في ساحة القتال ثم تركته بعد عودته، هو بحد ذاته قنبلة موقوتة داخل المجتمع.

المبادرات الأهلية مثل «حرب على النفس» و«النداء الأزرق» تحاول سدّ جزء من الفراغ عبر جمع التبرعات وتنظيم ورش علاجية طويلة الأمد للمصابين باضطرابات ما بعد الصدمة. لكن مجرد اعتماد الجنود على حملات تمويل جماعي للعلاج، في دولة تفتخر بقدراتها العسكرية والتكنولوجية، يكشف مفارقة قاسية: المنظومة القادرة على إدارة حرب طويلة، عاجزة عن إدارة سلام داخلي مع جرحاها وفقرائها.

عند جمع هذه اللوحات الثلاث – الجرح النفسي، الفقر المتزايد، والجرحى المنسيّون – يتضح أن إسرائيل تدفع ثمنًا مركّبًا يتجاوز حسابات الخسائر العسكرية. مجتمع يُضطر لإرسال أطفاله للعمل للمساعدة في إعالة البيت، بنسبة تفوق الضعف مقارنة ببقية السكان؛ جيش يحمل في داخله عشرات الآلاف من المصابين النفسيين؛ مسنون لا يستطيعون تمويل رعايتهم؛ وموجة انتحار بين الجنود… هذه ليست تفاصيل هامشية، بل مؤشرات على تآكل بطيء في «الحصانة الوطنية» التي تحب إسرائيل أن تتحدث عنها.

من زاوية أوسع، تكشف هذه المعطيات أن الحرب التي أرادت إسرائيل أن تحسم فيها مستقبل غزة، بدأت تترك أثرها الأعمق في الداخل الإسرائيلي نفسه. فالمشروع الذي قامت عليه الدولة – مشروع القوة، الردع، السيطرة، التفوق الاقتصادي والعسكري – يجد نفسه اليوم محاطًا بأسئلة من داخل البيت: من يدفع الثمن؟ من يضمن أن الجندي الذي يعود من الجبهة لن يسقط في معركة أخرى مع نفسه؟ ومن يحمي العائلة التي لم تحمل السلاح، لكنها تحارب الغلاء والفقر والقلق اليومي؟

في نهاية المطاف، لا تُقاس نتائج الحروب فقط بخرائط السيطرة، بل أيضًا بقدرة المجتمع على أن ينهض بعد كل ذلك، وأن يحافظ على تماسكه وثقته بنفسه. والمعطيات التي تنشرها الصحافة الإسرائيلية اليوم تقول شيئًا واضحًا: الانتصار العسكري – إن وُجد – لا يلغي الهزيمة الاجتماعية والنفسية. وربما هنا يكمن الدرس الأعمق: أن الأمة التي تفتح بوابة الحرب لا تختار شكل الثمن الذي ستدفعه، وأن الجبهة الأخطر ليست دائمًا على الحدود… بل كثيرًا ما تكون في داخل الإنسان نفسه.

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير