من داخل العقل الإسرائيلي: لماذا تخاف إسرائيل من سوريا الجديدة؟
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
ليس التعثر القائم في المفاوضات غير المعلنة بين إسرائيل وسوريا مجرد خلاف تقني على خطوط تماس أو ترتيبات أمنية مؤقتة، كما تحاول تل أبيب أن تُظهره في خطابها الرسمي. المسألة أعمق من ذلك بكثير، وتمس جوهر النظرة الإسرائيلية لسوريا بوصفها دولة يُفترض – وفق الحسابات الإسرائيلية التقليدية – أن تكون إما منهكة بلا قدرة، أو موقعة على سلام ينهي دورها السياسي في الصراع. ما يربك إسرائيل اليوم هو أن سوريا الجديدة لا تنتمي إلى أي من هذين النموذجين.
من داخل العقل الأمني والسياسي الإسرائيلي، لا يُنظر إلى سوريا بوصفها تهديدًا عسكريًا مباشرًا في هذه المرحلة، لكن يُنظر إليها كـ«مشكلة مؤجلة» قد تتحول إلى معضلة استراتيجية إذا ما نجحت – ولو تدريجيًا – في إعادة بناء فكرة الدولة. هذا هو جوهر الخوف الإسرائيلي: ليس السلاح السوري، بل عودة الدولة السورية إلى الجنوب، ولو بهيئة ضعيفة، ولو بإمكانات محدودة، ولو بخطاب هادئ خالٍ من الشعارات.
العقيدة الإسرائيلية، منذ حرب 1973، قامت على قاعدة واضحة: الدول العربية التي خرجت من معادلة الحرب يجب أن تُخرج نهائيًا من معادلة القرار. مصر أُخرجت باتفاق، العراق دُمّر، ليبيا فُككت، اليمن استُنزف، ولبنان عُلّق بين دولة عاجزة ولا دولة كاملة. سوريا، وفق هذا المنطق، كان يجب أن تسلك أحد طريقين: إما تفكك طويل الأمد، أو تسوية شاملة بشروط إسرائيلية. ما لم يكن متوقعًا هو أن تظهر سوريا ثالثة: دولة منهكة لكنها ترفض التنازل الدائم، ضعيفة لكنها متمسكة بالسيادة، خارجة من الحرب لكنها لا تقبل أن يُدار جنوبها كمنطقة مفتوحة.
في هذا السياق، يصبح مطلب دمشق بالانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط اتفاق فصل القوات لعام 1974 أكثر من مطلب قانوني. إنه اختبار نفسي لإسرائيل، لأن القبول به يعني اعترافًا ضمنيًا بأن السيادة السورية، رغم كل ما أصابها، ما زالت مرجعية، وأن الوجود الإسرائيلي داخل العمق السوري ليس قدرًا دائمًا. هذا الاعتراف، في المنظور الإسرائيلي، أخطر من بقاء حالة الفوضى.
إسرائيل تُبرر تمسكها بمنطقة الحزام الأمني بذريعة الخوف من الفراغ، ومن ضعف الدولة السورية الجديدة، ومن احتمالات تسلل قوى معادية. هذا الخطاب يبدو منطقيًا في ظاهره، لكنه يحمل تناقضًا جوهريًا: الوجود العسكري الإسرائيلي نفسه يساهم في إضعاف قدرة الدولة السورية على بسط سلطتها، ثم يُستخدم هذا الضعف مبررًا لاستمرار الاحتلال. إنها دائرة مريحة لإسرائيل، لكنها غير قابلة للاستدامة.
القلق الإسرائيلي لا يتوقف عند قدرة الحكومة السورية على ضبط الجنوب، بل يمتد إلى الخوف من أن تنجح دمشق، ولو تدريجيًا، في إعادة بناء مؤسساتها الأمنية والعسكرية بوصفها مؤسسات دولة لا أذرع ميليشيا. إسرائيل تعرف كيف تتعامل مع الفوضى، ومع التنظيمات، ومع اللاعبين غير الدولتيين، لكنها ترتبك أمام دولة تعود بهدوء، وتطالب بحقوقها دون ضجيج، وتراكم شرعية بطيئة بدلًا من التصعيد.
الأخطر في الحسابات الإسرائيلية ليس ما يمكن أن تفعله سوريا اليوم، بل ما يمكن أن تصبح عليه غدًا. سوريا التي لا تخوض حربًا، ولا توقع سلامًا مجانيًا، لكنها تُصر على استعادة أرضها عبر القانون والسياسة، تمثل نموذجًا مقلقًا لإسرائيل، لأنها تُسقط الرواية التي تقول إن من خسر الحرب خسر الحق إلى الأبد. هذا النموذج، إن ترسخ، لا يهدد إسرائيل عسكريًا، لكنه يهدد سرديتها الاستراتيجية.
في المقابل، يعاني الفكر العربي من عقدة مزمنة في قراءة إسرائيل: إما تضخيم قوتها إلىميًا بوصفها كيانًا لا يُقهر، أو اختزالها في صورة عدو أعمى لا عقل له. الحقيقتان تخدمان إسرائيل. ما لا يخدمها هو قراءة هادئة لعقلها ومخاوفها. إسرائيل ليست واثقة كما تبدو، وهي تخشى الزمن أكثر مما تخشى اللحظة، وتخاف من المسارات الطويلة أكثر من الأحداث المفاجئة.
الثمن الذي ترفض إسرائيل دفعه اليوم ليس أمنيًا فقط، بل سياسي ورمزي في آن واحد: الاعتراف بأن الوجود العسكري داخل سوريا مؤقت، وأن اتفاق 1974 ما زال إطارًا صالحًا، وأن الدولة السورية – لا الفصائل ولا الوسطاء – هي العنوان. هذا الثمن، في الحسابات الإسرائيلية، يفتح بابًا لمطالب لاحقة، ويكسر منطق السيطرة التراكمية الذي اعتادت عليه منذ عقود.
في المحصلة، ليست سوريا الجديدة خطرًا مباشرًا على إسرائيل، لكنها احتمال مزعج، وفكرة غير مريحة: فكرة الدولة العربية التي لم تُكسر بالكامل، ولم توقّع على خروجها من التاريخ السياسي للمنطقة. أما من منظور عربي عقلاني، فإن قوة سوريا الحقيقية لا تكمن اليوم في قدرتها على الحرب، بل في قدرتها على التمسك بالحق السيادي دون انتحار سياسي، وعلى فرض نفسها طرفًا لا يمكن تجاهله حتى وهي في أضعف حالاتها.
وهنا يلتقي الخوف الإسرائيلي مع الرهان السوري: إسرائيل تخاف من عودة الدولة، وسوريا تحاول – بصمت – أن تعود دولة.








