حين يتقدّم الإنسان على الكراهية.. قراءة أخرى تعود إلى ما قبل 1948
زياد فرحان المجالي
جو 24 :
* تنويه مهني: تُطرح هذه القراءة بوصفها زاوية تحليلية ضمن طيفٍ واسع من الروايات التاريخية المتباينة، ولا تدّعي حسم الجدل، بل تهدف إلى فهم آليات الخوف والسرديات التي غذّت الصراع عبر الزمن.
في اللحظات التي تتفلت فيها المجتمعات من أعصابها، وتتحول الأخبار العاجلة إلى وقود للكراهية، يصبح الفعل الإنساني الفردي أصدق من ألف بيان، وأقوى من أي خطاب سياسي أو ديني. ما جرى في أستراليا لم يكن مجرد حادث أمني عابر، بل اختبارًا أخلاقيًا عالميًا، كشف هشاشة الصور النمطية من جهة، وقدرة الإنسان على كسرها من جهة أخرى.
للعودة إلى الجذور، لا بدّ من فتح ملفٍّ شائك: ما قبل عام 1948. في تلك السنوات، كانت المنطقة العربية تعيش تحولاتٍ كبرى، وكانت الجماعات اليهودية جزءًا من نسيج اجتماعي طويل في مصر والعراق وسوريا وغيرها. ثم، خلال عقدٍ واحد تقريبًا، تفكك هذا الوجود التاريخي وهاجر مئات الآلاف إلى فلسطين/إسرائيل.
تنقسم الروايات هنا. فبينما تُعزى الهجرة إلى اضطراباتٍ سياسية وأمنية وصعود القوميات، تطرح أدبيات بحثية—كسؤالٍ تحليلي لا كحقيقة مُسلَّمة—فرضية الضغط المُنظَّم: هل استُخدمت عمليات تخويف أو اختراقات أو أفعال عنفٍ انتقائية لدفع يهود المنطقة إلى الاقتناع بأن "لا وطن لهم” إلا الدولة الوليدة؟
ليست هذه إجابة نهائية، لكنها تذكير بأن الخوف حين يُصنَع يصبح سياسة، وأن الهويات لا تُهجَّر وحدها؛ بل تُهجَّر عندما تُبنى لها بيئة خوفٍ مستدامة.
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”… تُستحضَر الآية هنا دلاليًا لا اتهاميًا، للتنبيه إلى أن السياسات التي تُراكم الخوف غالبًا ما تُنتج عكس ما تريد: دوّامة كراهية لا تنتهي.
من التاريخ إلى الحاضر
تُفسِّر هذه القراءة لماذا تعود حوادث العنف المعاصرة—أينما وقعت—بوصفها أصداء سرديات قديمة: منطق "الأمن المطلق”، و”الهوية المحاصَرة”، و”العدوّ الدائم”. وحين تُختزل الجماعات في صورة تهديد، يصبح أي حادث شرارة لإعادة إنتاج الخوف.
وهنا تبرز قيمة الفعل الإنساني الفردي.
أحمد… حين يكسر الإنسان منطق السرديات
وسط الفوضى والرصاص، خرج اسم أحمد. مسلم، مهاجر، أعزل. لم يتقدّم ليُثبت رواية أو ليردّ على تاريخٍ معقّد، بل ليمنع موتًا إضافيًا. بوضع جسده في مواجهة القاتل، عطّل حلقة العنف في لحظة كانت قابلة للانفجار.
بطولة أحمد لا تُنقِض الأسئلة التاريخية ولا تُجيب عنها، لكنها تُعيد ترتيب الأولويات:
قبل السرديات… هناك حياة.
قبل الهويات… هناك إنسان.
وقبل كل تاريخٍ مثقل… هناك قرارٌ أخلاقي آني.
لماذا هذا مهم؟
لأن دعاة الكراهية يعيشون على تغذية الخوف المتبادل. أما فعل أحمد فكان نقيض ذلك تمامًا. لم يقل إن طرفًا لا وطن له، ولم يستدعِ ماضيًا لتبرير حاضرٍ دموي. قال بالفعل لا بالخطاب: توقّف.
كلمة شكر مستحقة
شكرًا لأحمد لأنك اخترت الإنسان حين كان أسهل أن تختبئ.
لأنك كسرت منطق "الاصطفاف القسري” الذي يريدنا جنودًا في معارك السرديات، لا حرّاسًا للحياة.
ولأن فعلك—بهدوئه—ذكّر بأن الأمن الحقيقي لا يُبنى على نفي الآخر، بل على كبح العنف أينما كان.
خلاصة
التاريخ ثقيل، والروايات متنازعة، والأسئلة مشروعة.
لكن المستقبل لا يُكتب بالأسئلة وحدها، بل بالأفعال التي تمنع الدم الآن.
في هذا المعنى، لم يُنقذ أحمد أرواحًا فقط؛ أنقذ إمكانية الحوار في عالمٍ يندفع نحو القطيعة.








