"شبكات الأرحام"... الوجه المظلم لصناعة الخصوبة العابرة للحدود
جو 24 :
كشف تحقيق موسّع عن شبكة عابرة للحدود تنشط في قلب صناعة الخصوبة العالمية، حيث يتم استقطاب نساء فقيرات من تايلند ودول أخرى للعمل كـ"أمهات حاملات" في دولة جورجيا، ضمن منظومة يغلب عليها الغموض، وانعدام الشفافية، وشبهات الاتجار بالبشر، إلى جانب انتهاكات طبية جسيمة.
وروى التحقيق، الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، قصة شابة تايلندية تُدعى "إيف"، تنحدر من أسرة مثقلة بالديون، وتمثل نموذجاً شائعاً بين عشرات النساء اللواتي استُدرجن عبر إعلانات على "فيسبوك" تعد بدخل مرتفع "قانوني" مقابل العمل في جورجيا. تلك الإعلانات لم توضّح طبيعة المخاطر، ولا تفاصيل الإجراءات الطبية، بل اعتمدت على الوعد المالي بوصفه طوق نجاة من الفقر.
وبعد فحوصات أولية في بانكوك، نُقلت النساء إلى العاصمة الجورجية تبليسي، حيث صودرت جوازات سفرهن، ووُضعن في مساكن مغلقة خاضعة للمراقبة بالكاميرات، ومُنعن من المغادرة. ومنذ اللحظة الأولى، قُيّدت حريتهن بالكامل، وأصبحن معزولات لغوياً وقانونياً في بلد لا يعرفنه.
"نظام البيوت"
كما كشف التحقيق عن نظام منظّم يضم عدة بيوت مرقّمة، تُنقل بينها النساء وفق سلوكهن أو مدى "التزامهن". وكان "البيت الخامس"، بحسب روايات النساء، بمثابة التهديد الدائم: مكان مكتظ، بظروف معيشية أسوأ، وطعام شحيح. وكان مجرد التلويح بإرسال امرأة إليه كافياً لإخضاعها.
فيما لم يكن هذا النظام جسدياً فحسب، بل نفسياً أيضاً، إذ عزّز الخوف، ومنع التضامن، وشجّع على الوشاية الداخلية.
ولعل من أخطر ما وثّقه التحقيق الانتهاك المنهجي لمبدأ "الموافقة الطبية المستنيرة". فقد كانت النساء يُعطين أدوية هرمونية وحقناً وتحاميل دون شرح، ومن دون مترجمين، أو وثائق بلغتهن الأم. لم يكنّ يعرفن ماهية الأدوية، ولا آثارها، ولا الهدف الدقيق من الإجراءات.
وتعرّضت "إيف" لإجراء طبي مؤلم وغامض، تخلله تقييد جسدي وسخرية من الطاقم الطبي، من دون أي تفسير. وبعد العملية، نزفت بشدة وأُصيبت بآلام حادة، من دون أن تتلقى أي معلومات عمّا جرى أو يُسمح لها بطرح الأسئلة.
اشتباه في "سرقة بويضات"
إلى ذلك، تناول التحقيق حالات أكثر خطورة، أبرزها حالة شابة تُدعى "ستار"، خضعت لتخدير كامل ثم استيقظت وهي تنزف بغزارة، مع مؤشرات طبية لاحقة على إصابتها بمتلازمة فرط تحفيز المبيض (OHSS)، وهي حالة ترتبط غالباً بسحب البويضات.
ورجّحت النساء أنفسهن، إلى جانب عاملين سابقين في المجال، أن بويضات سُحبت منهن من دون موافقة صريحة. ويشير التحقيق إلى أن "سرقة البويضات" باتت ظاهرة موثقة عالمياً في دول عدة، من بينها اليونان والهند وإيطاليا وإسرائيل.
تأتي هذه الانتهاكات في سياق أوسع يتمثل في الطلب الصيني الهائل على خدمات الخصوبة. فمع القيود القانونية داخل الصين، وحظر الحمل بالإنابة، وندرة التبرع بالبويضات، يلجأ آلاف الصينيين إلى الخارج. وتُعد جورجيا، بعد إغلاق أسواق مثل روسيا وأوكرانيا، وجهة رئيسية بسبب ضعف الرقابة وتكاليفها الأقل.
كما كشف التحقيق أن التفاوت العرقي يلعب دوراً في التسعير داخل هذه السوق، إذ تتقاضى النساء من أفريقيا أدنى الأجور، تليهن التايلنديات، ثم نساء أوروبا الشرقية، ما يعكس بعداً تمييزياً صريحاً.
ورغم ازدهار القطاع، فشلت الدولة الجورجية في تنظيمه. فقد طُرح مشروع قانون لتنظيم الحمل التجاري بالإنابة عام 2023، ثم اختفى من دون تفسير. وأرجعت منظمات حقوقية محلية ذلك إلى نفوذ المال والفساد، معتبرة أن الصناعة تدر ملايين الدولارات، ما يجعل المساس بها سياسياً مكلفاً.
حتى عندما تفجّرت فضائح، مثل قضية وكالة Kinderly التي امتنعت عن دفع أجور الأمهات الحاملات، لم يُحاسَب المتورطون على أساس الاتجار بالبشر، بل وُجهت إليهم تهم مالية محدودة.
الهروب وكشف المستور
وأوضحت الصحيفة أن مجموعة من النساء تمكنّ، بمساعدة منظمات تايلندية لمكافحة الاتجار بالبشر، من الهرب ليلاً من أماكن احتجازهن في تبليسي، في مشهد أقرب إلى أفلام الهروب منه إلى بيئة عمل قانونية.
وبعد عودتهن إلى تايلند، أدلت النساء بشهادات رسمية، مؤكدات أن ما تعرّضن له في جورجيا كان، من وجهة نظرهن، أسوأ من تجارب سابقة في الدعارة القسرية، لأنهن هذه المرة لم يعرفن ما الذي فُعل بأجسادهن، ولا إن كانت أضرار دائمة قد لحقت بهن.
كذلك لفت التحقيق إلى أن "الآباء المقصودين" أنفسهم قد يكونون ضحايا خداع، إذ تُباع لهم صورة وردية عن عملية أخلاقية ومنظمة، بينما تُخفى عنهم ظروف الأمهات الحاملات، وغياب المترجمين، وعدم وجود محامين مستقلين أو تأمينات كافية.
تأجير الأرحام (تعبيرية - نيويورك تايمز)
تأجير الأرحام (تعبيرية - نيويورك تايمز)
وفي ختام التحقيق، يطرح سؤالاً أخلاقياً حاداً: "إلى أي مدى يصبح السعي المشروع للأبوة مشاركة غير مباشرة في منظومة استغلال؟"
واختصرت "إيف" التجربة بقولها: "هم لا يروننا بشراً... يضعون كل شيء في أجسادنا من أجل بقاء الطفل، من دون أن يفكروا في صحتنا".








