كلمات تُقال بهدوء وتصنع توترًا: ماذا وراء تصريح ترامب عن إسرائيل ولبنان؟
جو 24 :
كتب زياد فرحان المجالي -
قال ترامب، في احتفال ديني داخل البيت الأبيض، إن «إسرائيل لن تكون وحدها في لبنان». جملة قصيرة، قيلت بهدوء، لكنها فتحت أبوابًا واسعة للتأويل، وأعادت طرح أسئلة كبرى حول معنى وقف إطلاق النار، وحدود التهدئة، وطبيعة المرحلة المقبلة في الإقليم. فالكلمات التي تُقال خارج غرف الحرب، وفي أجواء احتفالية، قد تكون أحيانًا أكثر خطورة من تصريحات تُطلق في ذروة القتال، لأنها تُفهم بوصفها إشارات استراتيجية لا ردود فعل ظرفية.
جاء هذا التصريح بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، وفي لحظة كان يُفترض أن تتجه فيها المنطقة نحو خفض التوتر. لكن مضمون الكلام لا يوحي بنهاية صراع، بل بإعادة توزيع أدواره. فالتأكيد على أن إسرائيل «لن تكون وحدها» لا يعني فقط دعمًا سياسيًا، بل يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة، تبدأ بالغطاء السياسي والدبلوماسي، ولا تنتهي عند حدود الدعم العسكري غير المباشر. بهذا المعنى، يصبح وقف النار محطة، لا خاتمة.
سياسيًا، يمكن قراءة تصريح ترامب على ثلاثة مستويات متداخلة. المستوى الأول هو مستوى العلاقة الأميركية–الإسرائيلية، حيث يعيد ترامب التأكيد على التزامه الثابت بأمن إسرائيل، ليس بوصفه شأنًا دفاعيًا فحسب، بل بوصفه عنصرًا مركزيًا في رؤيته للشرق الأوسط. هذا الالتزام لا يتأثر بتبدّل الجبهات، ولا بانتقال الصراع من غزة إلى احتمالات الشمال.
المستوى الثاني هو الرسالة الموجهة إلى لبنان وحزب الله. فحين يُقال إن إسرائيل لن تكون وحدها، فإن المقصود ليس فقط التحذير من قوة إسرائيل، بل الإيحاء بأن أي مواجهة مقبلة ستكون أوسع من كونها نزاعًا ثنائيًا. هذه الرسالة تهدف بالأساس إلى الردع، لكنها في الوقت ذاته ترفع منسوب التوتر، لأنها تُبقي احتمالات التصعيد مفتوحة، دون تحديد سقف واضح لها.
أما المستوى الثالث، والأكثر عمقًا، فهو البعد الداخلي الأميركي. فترامب لم يفصل تصريحه عن حديثه المطوّل حول تراجع نفوذ اللوبي اليهودي في واشنطن، واتهامه الكونغرس بالتحول نحو معاداة السامية. هذا الربط يكشف أن الخطاب لم يكن خارجيًا فقط، بل موجّه أيضًا إلى جمهور داخلي يشعر بالقلق من تغيّر المزاج السياسي الأميركي تجاه إسرائيل. في هذا السياق، يصبح التهديد الخارجي أداة لإعادة تعبئة الداخل.
في حديثه عن غزة، استخدم ترامب لغة «السلام» و«الإنجاز»، متحدثًا عن دعم دولي واسع لوقف إطلاق النار، وعن استعادة جثامين أسرى إسرائيليين. لكن هذا الخطاب أغفل عمدًا سؤال ما بعد الحرب. فوقف النار، وفق هذه المقاربة، هو نهاية العمليات العسكرية المباشرة، لا نهاية المعاناة الإنسانية. لا ذكر لإعادة إعمار، ولا لرفع حصار، ولا لمسؤولية الطرف الأقوى عن إدارة تداعيات الحرب. وهنا يظهر التناقض بين الخطاب السياسي والواقع الميداني.
هذا التناقض هو ما يجعل تصريح لبنان امتدادًا طبيعيًا لمنطق إدارة الصراع، لا خروجًا عنه. فعندما لا تُحسم الحرب سياسيًا، يجري الإبقاء على الضغط عبر التلويح بجبهات أخرى. ليس بالضرورة عبر قرار فوري بالتصعيد، بل عبر إبقاء المنطقة في حالة توتر دائم. لبنان، في هذا السياق، ليس هدفًا منفصلًا، بل جزء من معادلة ردع إقليمية أوسع، تشمل إيران وحلفاءها.
اللافت أن ترامب لم يتحدث عن تدخل أميركي مباشر، بل عن دول «ستنضم» إذا لزم الأمر. هذا الغموض مقصود، لأنه يمنح صانع القرار الأميركي هامش مناورة واسعًا. فالدعم قد يكون سياسيًا في مجلس الأمن، أو استخباريًا خلف الكواليس، أو لوجستيًا عبر التسليح، أو حتى عسكريًا بشكل محدود. خطورة هذا الغموض أنه لا يطمئن، بل يترك جميع الأطراف في حالة ترقّب دائم.
في المقابل، يغيب عن الخطاب الحديث عن الكلفة البشرية لأي تصعيد محتمل. المدنيون في غزة، كما في لبنان، لا يظهرون في هذه المعادلات إلا بوصفهم أرقامًا. هذا الغياب ليس تفصيلًا لغويًا، بل يعكس طبيعة مقاربة ترى في الصراع مسألة أمنية صِرفة، تُدار بالقوة والردع، لا بحقوق البشر وحياتهم اليومية. وهنا يكمن الخطر الحقيقي، لأن تجاهل البعد الإنساني لا يؤدي إلى استقرار، بل إلى تراكم أسباب الانفجار.
تحذير ترامب ليهود الولايات المتحدة من تراجع نفوذهم يحمل دلالات إضافية. فهو يقرّ ضمنًا بأن الدعم الأميركي لإسرائيل لم يعد مسألة إجماع مطلق كما كان في السابق. هذا الاعتراف، حتى وإن جاء في سياق تعبوي، يعكس تحوّلًا بنيويًا في السياسة الأميركية، حيث باتت إسرائيل موضوع نقاش وجدال، لا مسلّمة سياسية. ومن هنا، يصبح رفع منسوب التهديد الخارجي وسيلة للحفاظ على تماسك القاعدة المؤيدة.
ربط ترامب بين الهجمات على الجاليات اليهودية في الخارج وأحداث السابع من أكتوبر، ومساواة إنكار تلك الأحداث بإنكار المحرقة، يدخل في إطار توسيع مفهوم التهديد إلى أقصى حد. هذا الخطاب يخلط بين السياسي والديني والأمني، ويحوّل أي نقاش نقدي إلى شبهة أخلاقية. ورغم فعاليته التعبوية، إلا أنه لا يقدّم حلولًا، بل يعمّق الاستقطاب ويؤجّل معالجة جذور الصراع.
أما حديث ترامب عن إيران ودور الولايات المتحدة العسكري، فهو جزء من السردية نفسها: تقديم القوة الصلبة بوصفها أداة إعادة تشكيل الشرق الأوسط. التفاخر باستخدام قاذفات استراتيجية، والانسحاب من الاتفاق النووي، كلها عناصر تهدف إلى رسم صورة زعيم حاسم لا يتردد في استخدام القوة. لكن هذه الصورة، مهما بدت قوية، لا تجيب عن سؤال الاستقرار طويل الأمد، ولا عن كلفة هذا النهج على شعوب المنطقة.
في المحصلة، لا يمكن قراءة تصريح ترامب عن لبنان بمعزل عن مجمل خطابه وسياقه. هو ليس إعلان حرب، لكنه أيضًا ليس تطمينًا. هو رسالة مفتوحة الاحتمالات، تُبقي منطق القوة حاضرًا، وتُبقي التهدئة هشّة. الكلمات التي قيلت بهدوء، وفي احتفال ديني، تصنع توترًا لأنها تُفهم كإشارات استراتيجية لا كعبارات عابرة.
الخلاصة أن وقف إطلاق النار في غزة لم يُغلق ملف الصراع، بل نقله إلى مرحلة أكثر تعقيدًا. مرحلة تُدار فيها التهديدات بالكلمات، لا بالقنابل فقط، وتُترك فيها الجبهات مفتوحة على الاحتمال. في هذا السياق، تصبح الكلمات أخطر من الرصاص، لأنها ترسم خرائط المرحلة المقبلة، وتحدد شكل الصراع قبل أن يبدأ.








