jo24_banner
jo24_banner

صفحة من سيرة غير ذاتية!

حلمي الأسمر
جو 24 : سجل ولادات أم الفتى يقول إنها حملتْ اثنين وعشرين جنينا.. أفلت من أنياب الجوع والمرض منهم ثمانية فقط!
وللجوع في المخيم أنياب وأظافر طويلة كم أنشبها في رقاب الأطفال فحملهم إلى المقبرة.. فلم لا تدفع المرأة الذكية شبحه عن الفتى القادم للتو إلى مكان لا مكان له فيه؟! ألم يقتل الجوع قرابة ثلثيْ اطفال أم الفتى؟ ألم تدفن ثلاثة عشر طفلا لم يعش بعضهم إلا أشهرا جنينية فسقطوا قبل أن يروا النور؟!
كان ذلك المسؤول أكثر أهمية في ذهن أم الفتى من صلاح الدين الأيوبي وخالد بن الوليد وسيف بن ذي يزن وجمال عبد الناصر مجتمعين.. ولهذا استحق أن يكون الفتى سميـّه، وبالفعل، فقد كان هذا المسؤول يـُغْدق على الفتى مما كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين تجود به من فواكه وحليب وطحين وسمن مما يخص «المرضعات» ومن يدري.. فربما كان ذلك المسؤول وسيلة ربانية حفظت حياة الفتى فلم يلحق بإخوته الثلاثة عشر الراحلين!
وللرحيل في ذاكرة الفتى حكاية، فهو إن ينسى لا يمكن أن ينسى ذلك المشهد الذي روته الوالدة، عن الابن الثاني الذي رأى النور في الأيام الأولى لقيام الخيمة، بعد «الهجرة الأولى» التي كانت منتصبة ربما مكان هذه الغرفة ذات السقف الزينكو، يتذكر الفتى الوالدة وهي تصف ذلك المشهد المبلل بالدمع:
كانت الخيمة تهتز كأنها قطعة قماش منشورة على حبل غسيل، والمطر يضربها من كل جانب، وصوت الفتى الرضيع يشق عنان السماء بقوة، منذ جاء إلى الدنيا وهو يبكي، كنت أرضعه بما تيسر من حليب، لم يكن ثمة شيء في الخيمة ليدر عليه، خبز قليل إن وُجد، كنت نفساء والنفساء تحتاج إلى أكل، ولكن من أين؟ تلك الليلة بكى الرضيع حتى تعب، تسللت إليه حيث استقر في السرير الحديدي البدائي المتحرك، حينما اقتربت منه مد يده بحركة مخيفة إلى صدري، ألقمته الثدي الفارغ، لم يحاول حتى أن يرضع، فحدثت نفسي: لعله نام، حمدت الله، جاء صوت الوالد من الطرف الآخر من الخيمة: كِنُّه نام يا خديجة؟ قلت: كِنه يا مْحِمَّدْ! انسحبت كي أنام أنا الأخرى، وفي الصباح تفقدت الرضيع، كان مُثلجا، حسبت لوهلة أن البرد نال منه، ولكن بصره كان شاخصا، ناديت على مْحِمَّدْ: تعال شوف الولد مالُهْ!
حينما جاء مْحِمَّدْ، نطت من عينه دمعة صامتة، ثم قال: الله بِعَوّض يا خديجة!
لم أفهم للوهلة الأولى: شو يعني! ولكن سرعان ما أدركت أن الفتى لم يكن نائما، كان نائما بعمق أبدي، لقد مات من .. الجوع!
كلما أتذكر هذه الحادثة تصيبني قشعريرة في جسدي، وأقول في نفسي: كان يمكن أن أكون أنا، ولكنها إرادة الله سبحانه، وأقسم سرا أن لا أكون ضحية مشابهة، حتى ولو كلفني هذا الأمر ما كلف!
.........
ولم تزل الحكاية بلا نهاية، ولم تزل الأخبار تأتي من مخيم اليرموك في الشام عن أطفال يموتون جوعا وبردا، وعن آباء يموتون قهرا!
(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news