سؤال الطبع الوطني للمصريين
فهمي هويدي
جو 24 : أول مقال قرأته في العام الجديد كان أحد عناوينه يتحدث عن «موسم العبط في مصر»، وقد نشرته مجلة الإيكونوميست في عدد الأول من شهر يناير، الموضوع الأساسي للمقال هو اللغط الذي أثير في مصر وتحقيقات النائب العام بخصوص إعلان ترويجي استعانت به شركة الهاتف المحمول الشهيرة للدعاية لمنتجاتها، بطلة الإعلان شخصية باسم «أبلة فاهيتا»، التي تجري حوارات اعتبرها البعض محملة برسائل ورموز مشفرة تضمنت توجيهات لها علاقة بالعمليات الإرهابية.
مقال الإيكونوميست يعبر عن الدهشة إزاء المستوى الذي وصل إليه الهوس الأمني في مصر، الذي بدا أقرب إلى السَفَه والعبط منه إلى اليقظة والحذر. ما لاحظته في الموضوع أن أطرافا في الإعلام الأمني والنيابة العمومية أخذت المسألة على محمل الجد، وهو موقف قوبل من جانب المعلقين في مواقع التواصل الاجتماعي بدرجات مختلفة من الدهشة والسخرية. الأمر الذي يحير المرء ويدفعه إلى التساؤل عن مدى تعبير هذا الموقف أو ذاك عن حقيقة المزاج الشعبي في مصر.
يدفعني إلى ذلك أنني كنت قد قرأت عن العلاقة الوثيقة بين أداء النخب في المجتمع والمستوى الحضاري للشعوب، وهي الفكرة المحورية في كتاب شهير عنوانه «السياسة بين الأمم»، الذي ألفه عالم السياسة الأمريكي مورجان ثاو، واعتبر فيه ان الرؤية الاستراتيجية لكل بلد هي ثمرة تفاعل بين المصلحة الوطنية من جهة والقدرات الوطنية من جهة ثانية. وهذه القدرات الأخيرة تتحدد في ضوء عاملين، أحدهما متغير والثاني ثابت. الأول يتمثل في الامكانيات الاقتصادية والصناعية والقوة السياسية التي يعبر عنها التأييد الشعبي والحضور الدبلوماسي. أما العامل الثابت فهو يتمثل أولا في الوضع الجغرافي وثانيا فيما يصفه مورجان ثاو بالطبع الوطني. وهذه النقطة الأخيرة هي التي تهمني في الموضوع. ذلك أن الكاتب في تحليله للطبع الوطني عُني بالإشارة إلى بعض النماذج، فذكر ان الإنجليز مشهورون ببرودة دمِّهم، وإن الفرنسيين يتسمون بالعقلانية الديكارتية، في حين أن الروس معروفون بخوفهم من السلطة ومن الأجنبي. وهو ما دفعني إلى التساؤل عما إذا كان للعرب طبع وطني واحد، أم ان اختلاف أقطارهم وتوزعهم على رقعة جغرافية مترامية الأطراف جعل لكل قطر أو إقليم طبعه الوطني المتميز. وفي هذه الحالة يثور السؤال عن الطبع الوطني للمصريين، وما إذا كانت الصورة المرسومة في الفضاء الإعلامي والسياسي الراهن تعبر حقا عن المستوى الحضاري للشعب المصري. وهذا التساؤل الأخير يكتسب أهمية خاصة عندي ليس فقط بسبب رابطة الانتماء المفهومة، ولكن أيضا لأنني أزعم أن الأفق السياسي والإعلامي في مصر بات يعاني من التلوث والتشوه الذي يسرب إلى المرء شعورا بالقلق والخوف من أن يكون بحالته تلك ممثلا للمستوى الحضاري للشعب.
ليس بمقدوري أن أجيب عن شق السؤال المتعلق بالطبع الوطني للأمة العربية أو شعوبها، بسبب شح الدراسات التي عالجت الموضوع، إلى جانب أننا في العالم العربي أكثر ميلا إلى تمجيد الذات منا إلى نقدها، علما بأن ذلك التمجيد له جذوره الممتدة إلى عصور الجاهلية. وإذا جاز لي أن أتحدث عن مصر فلعلي أقول إن تمجيد الذات له نبرته العالية، في حين أن نقدها يقابل بالاستهجان والدهشة. ومصطلح «أم الدنيا» يغلق الباب أمام أي محاولة للمراجعة والنقد. وحسب معلوماتي فإن الدراسات التي أجريت حول وصف تقاليد المصريين وأعرافهم أوفى بكثير من تلك التي قامت بتحليل الشخصية المصرية. كما ان ثمة ندرة شديدة في الدراسات التي تناولت القيم السائدة في أوساط المصريين في أطوار حياتهم المختلفة. لذلك أذهب إلى أن التطرق إلى الموضوع في الوقت الراهن يعتمد على الانطباعات بأكثر من اعتماده على البحوث والدراسات.
في إطار الانطباعات أسجل الملاحظات التالية:
< إن المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر والتي تتسم بالسيولة وبعدم الاستقرار لا توفر ظرفا مواتيا لتقييم أو تحليل القيم السائدة، ومن ثم رسم خريطة معبرة حقا عن الطبع الوطني للمصريين.
< إن الصراع المحتدم الآن أحدث انقلابا في وعي المصريين، حتى وجدنا أن المجتمع الذي صوت خمس مرات لصالح استفتاء وانتخابات النظام السابق والذي هتف ضد العسكر، هو ذاته الذي استسلم لموجة كراهية النظام السابق وأهله، وباتت أبواقه تتوق إلى حكم العسكر.
< إن ذلك الصراع والتعبئة الإعلامية التي صاحبته استخرجا من عامة المصريين أسوأ ما فيهم، بقدر ما أن التوافق في ثورة يناير استخلص منهم أفضل ما فيهم. لذلك فإن الظرف الراهن لا يعد توقيتا مناسبا لإجراء التقييم المنشود.
< إن تغييب الديمقراطية في مصر لأكثر من خمسين عاما دمر الحياة السياسية وشوهها، بحيث بات متعذرا علينا أن نتحدث عن طبقة سياسية حقيقية في البلد، وإنما صرنا بإزاء هواة يمارسون السياسة وليسوا سياسيين محترفين. الأمر الذي في ظله يتعذر القول إن الطبقة السياسية الراهنة تعبر حقيقة عن المجتمع المصري أو عن طبعه. وحين يصبح هؤلاء منتخبين من المجتمع وليسوا مفروضين عليه من خلال الإعلام أو غيره فإن ذلك يكون مدعاة للاطمئنان إلى تمثيلهم للرأي العام المصري. وحينئذ فقط يمكن اعتمادهم كأحد عناصر تقدير الطبع الوطني للمصريين.
(السبيل)
مقال الإيكونوميست يعبر عن الدهشة إزاء المستوى الذي وصل إليه الهوس الأمني في مصر، الذي بدا أقرب إلى السَفَه والعبط منه إلى اليقظة والحذر. ما لاحظته في الموضوع أن أطرافا في الإعلام الأمني والنيابة العمومية أخذت المسألة على محمل الجد، وهو موقف قوبل من جانب المعلقين في مواقع التواصل الاجتماعي بدرجات مختلفة من الدهشة والسخرية. الأمر الذي يحير المرء ويدفعه إلى التساؤل عن مدى تعبير هذا الموقف أو ذاك عن حقيقة المزاج الشعبي في مصر.
يدفعني إلى ذلك أنني كنت قد قرأت عن العلاقة الوثيقة بين أداء النخب في المجتمع والمستوى الحضاري للشعوب، وهي الفكرة المحورية في كتاب شهير عنوانه «السياسة بين الأمم»، الذي ألفه عالم السياسة الأمريكي مورجان ثاو، واعتبر فيه ان الرؤية الاستراتيجية لكل بلد هي ثمرة تفاعل بين المصلحة الوطنية من جهة والقدرات الوطنية من جهة ثانية. وهذه القدرات الأخيرة تتحدد في ضوء عاملين، أحدهما متغير والثاني ثابت. الأول يتمثل في الامكانيات الاقتصادية والصناعية والقوة السياسية التي يعبر عنها التأييد الشعبي والحضور الدبلوماسي. أما العامل الثابت فهو يتمثل أولا في الوضع الجغرافي وثانيا فيما يصفه مورجان ثاو بالطبع الوطني. وهذه النقطة الأخيرة هي التي تهمني في الموضوع. ذلك أن الكاتب في تحليله للطبع الوطني عُني بالإشارة إلى بعض النماذج، فذكر ان الإنجليز مشهورون ببرودة دمِّهم، وإن الفرنسيين يتسمون بالعقلانية الديكارتية، في حين أن الروس معروفون بخوفهم من السلطة ومن الأجنبي. وهو ما دفعني إلى التساؤل عما إذا كان للعرب طبع وطني واحد، أم ان اختلاف أقطارهم وتوزعهم على رقعة جغرافية مترامية الأطراف جعل لكل قطر أو إقليم طبعه الوطني المتميز. وفي هذه الحالة يثور السؤال عن الطبع الوطني للمصريين، وما إذا كانت الصورة المرسومة في الفضاء الإعلامي والسياسي الراهن تعبر حقا عن المستوى الحضاري للشعب المصري. وهذا التساؤل الأخير يكتسب أهمية خاصة عندي ليس فقط بسبب رابطة الانتماء المفهومة، ولكن أيضا لأنني أزعم أن الأفق السياسي والإعلامي في مصر بات يعاني من التلوث والتشوه الذي يسرب إلى المرء شعورا بالقلق والخوف من أن يكون بحالته تلك ممثلا للمستوى الحضاري للشعب.
ليس بمقدوري أن أجيب عن شق السؤال المتعلق بالطبع الوطني للأمة العربية أو شعوبها، بسبب شح الدراسات التي عالجت الموضوع، إلى جانب أننا في العالم العربي أكثر ميلا إلى تمجيد الذات منا إلى نقدها، علما بأن ذلك التمجيد له جذوره الممتدة إلى عصور الجاهلية. وإذا جاز لي أن أتحدث عن مصر فلعلي أقول إن تمجيد الذات له نبرته العالية، في حين أن نقدها يقابل بالاستهجان والدهشة. ومصطلح «أم الدنيا» يغلق الباب أمام أي محاولة للمراجعة والنقد. وحسب معلوماتي فإن الدراسات التي أجريت حول وصف تقاليد المصريين وأعرافهم أوفى بكثير من تلك التي قامت بتحليل الشخصية المصرية. كما ان ثمة ندرة شديدة في الدراسات التي تناولت القيم السائدة في أوساط المصريين في أطوار حياتهم المختلفة. لذلك أذهب إلى أن التطرق إلى الموضوع في الوقت الراهن يعتمد على الانطباعات بأكثر من اعتماده على البحوث والدراسات.
في إطار الانطباعات أسجل الملاحظات التالية:
< إن المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر والتي تتسم بالسيولة وبعدم الاستقرار لا توفر ظرفا مواتيا لتقييم أو تحليل القيم السائدة، ومن ثم رسم خريطة معبرة حقا عن الطبع الوطني للمصريين.
< إن الصراع المحتدم الآن أحدث انقلابا في وعي المصريين، حتى وجدنا أن المجتمع الذي صوت خمس مرات لصالح استفتاء وانتخابات النظام السابق والذي هتف ضد العسكر، هو ذاته الذي استسلم لموجة كراهية النظام السابق وأهله، وباتت أبواقه تتوق إلى حكم العسكر.
< إن ذلك الصراع والتعبئة الإعلامية التي صاحبته استخرجا من عامة المصريين أسوأ ما فيهم، بقدر ما أن التوافق في ثورة يناير استخلص منهم أفضل ما فيهم. لذلك فإن الظرف الراهن لا يعد توقيتا مناسبا لإجراء التقييم المنشود.
< إن تغييب الديمقراطية في مصر لأكثر من خمسين عاما دمر الحياة السياسية وشوهها، بحيث بات متعذرا علينا أن نتحدث عن طبقة سياسية حقيقية في البلد، وإنما صرنا بإزاء هواة يمارسون السياسة وليسوا سياسيين محترفين. الأمر الذي في ظله يتعذر القول إن الطبقة السياسية الراهنة تعبر حقيقة عن المجتمع المصري أو عن طبعه. وحين يصبح هؤلاء منتخبين من المجتمع وليسوا مفروضين عليه من خلال الإعلام أو غيره فإن ذلك يكون مدعاة للاطمئنان إلى تمثيلهم للرأي العام المصري. وحينئذ فقط يمكن اعتمادهم كأحد عناصر تقدير الطبع الوطني للمصريين.
(السبيل)