تصفية القضية دونما صخب
توجان فيصل
جو 24 : الشعارات الدولية كانت وما زالت تنادي بـ "حل سلمي عادل ودائم للصراع في الشرق الأوسط"، والحل "الدائم" لأي صراع يستحيل إن لم يكن "عادلا" بالحد الأدنى للطرف المغبون.
وبغض النظر عما لحق باليهود قبل توطنهم في أرض فلسطين, فإن مجريات ذلك التوطين وما فعله هؤلاء المستوطنون بأصحاب الأرض, لا جدال في أنه جعل الشعب الفلسطيني هو المغبون غبنا غير مسبوق في التاريخ.
لهذا لا يجوز لإنجاز "الحل الدائم" أن يعتد بما توافق أو لا توافق عليه إسرائيل، ولا يهم حتى توافق كامل الدول العربية والشرق الأوسط أو العالم كلّه عليه، بل المهم مكوّن العدالة للشعب الفلسطيني فيه.
وحتما لا يقبل أن يوزع الغبن على شعوب عربية لتغذية التمدد السرطاني لإسرائيل في المنطقة.
وأبرز غبن يلحق بالشعب الفلسطيني في مشروع حل "جون كيري" هو تغييب أي تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني واختزال ملايينه التي تصنف ضمن الأعلى علما وكفاءة في العالم بشخص محمود عباس.
حتى "وارث المفاوضات" صائب عريقات وفريقه يستثنون, مع أن أيا من هؤلاء لا يملك أيضا أية صفة تمثيلية تتيح له التفاوض عن أهل حي في بلدة فلسطينية أو في مخيم لجوء.
وتجري محاولة تصفية القضية الفلسطينية في وقت أن الشعب الفلسطيني في دول اللجوء العربي كافة أبعد ما يكون عن القدرة على فرض خياراته.
فالفلسطينيون هم الطرف الأضعف في كامل دول الربيع العربي التي يتزايد اتكاء أهلها على جماعاتهم السابقة للدولة على أرضهم (عشائر وقوميات وطوائف), في مواجهة الأنظمة التي تتحكم في تلك الدولة بقبضة حتمت ثورات الشعوب عليها.
بل إن إسناد الشعوب العربية القومية التوجه في غالبيتها, وقواها السياسية للشعب الفلسطيني، غائب أيضا لانشغال تلك الشعوب بثورات ربيعها.
كما تغيب أنظمة كانت داعمة للحقوق الفلسطينية بدرجة أو بأخرى, ومثلها أنظمة وطنية وقومية في طور الولادة والتشكل.
وحال مجمل العرب أصعب من حالهم عندما "جُلبوا" لمؤتمر مدريد (التعبير للأمير حسن بن طلال الذي أسماه توجيه مذكرات جلب للدول العربية)، الذي كانت مخرجاته من أهم ما حتم ثورات الربيع العربي، ويتجلى ذلك بوضوح في شعارات بعضها.
مشروع كيري للتسوية التي يحاول إنضاجها "بسرية" استبقته مصادر إسرائيلية بكشف وجود قناة تفاوض سرية مستمرة بين عباس ونتنياهو منذ ولاية نتنياهو الأولى، رغم زعم توقف المفاوضات.
والأعجب أن موفد عباس السري هنا هو "رجل الأعمال" باسل عقل الذي لم يُسمع باسمه من قبل, مما يُظهر أن مصير الشعب والوطن الفلسطيني هو بالنسبة لعباس "صفقة بزنس"! في حين أن مندوب نتنياهو هو المحامي يتسحاق مولخو رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض في العلن.
ولا يخفى على عاقل أهمية الخبرة التفاوضية والعلم القانوني في إبرام الاتفاقيات. فقد سبق أن بيّنا أنه حين عين الملك حسين، عون الخصاونة (القاضي الدولي بعدها) في فريقه المفاوض على اتفاقية وادي عربة، أقر الخصاونة باستحالة قيامه وحده بالمهمة واشترط, كحد أدنى، الاستعانة برجلي قانون دولي أجنبيين على سوية عالية من الكفاءة والنزاهة.
ولكن أهم ما أضافه هؤلاء للاتفاقية (شروط ومرجعيات التحكيم) جرى التنازل عنه أردنيا!
ويقول المصدر الإسرائيلي إن نتنياهو وعباس حافظا على سرية قناة الاتصال بينهما كي لا يتعرضا "لضغوط سياسية".
واضح أن نتنياهو هو أحد "مصادر" وليس فقط "نتاج" ضغوط المتطرفين الصهاينة, في وقت يريد عباس أن يتصرف بحقوق شعب بأسره دون أية ضغوط من أصحاب الحق, ودونما تكليف انتخابي بحد أدنى من الشرعية!
والأدهى تكشّف أن مرجعية تلك المفاوضات هي وثيقة أبو مازن-بيلين التي أبرمت عام 1995، وتتوجب قراءة مفصلة لبنود الوثيقة/الاتفاقية كونها "كارثية".
ولكن لأغراض هذه المقالة نورد الملخص المقتضب الذي قدمه المؤرخ الفلسطيني ربحي حلوم لنصها المنشور على موقعه, والذي يقول "القدس في أبو ديس والعيزرية.. والأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة "الفاتيكان".. المستوطنات الكبرى باقية.. فترة اختبار نوايا لعشرين عاما.. والدولة منزوعة السلاح.. إلغاء الأونروا واستبدالها بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين، وتوطين اللاجئين في أماكن إقامتهم ودونما صخب"!
وهو ملخص ممتاز ولكنه لا يمكن أن يظهر كم "الشياطين" الهائل القابع في التفاصيل, بدءا بأسماء من حضر اللقاءات التي أنتجت الوثيقة من الجانبين, فيما رعاة المؤتمر أحدهم وزير سويدي والثلاثة الآخرون خبراء قانون دولي وساسة فرنسيون, وفلسطيني وحيد لم يواظب على حضور الجلسات هو الراعي "المموّل" لكل هؤلاء.. أي رجل بزنس آخر!
ولأن إسرائيل خرقت حتى بنود هذه الاتفاقية بما تقرره وتفرضه أحاديا وتسميه "حقائق على الأرض", يلزم التوقف عند بعض هذا مما شكل عناوين رئيسية يجري فيها تضليل "عربي وفلسطيني" للشارع العربي والفلسطيني.
ومن أبرز هذه العناوين قرار حكومة نتنياهو ضم منطقة غور الأردن لإسرائيل. واللافت, والمخجل, أن تكون تسيبي لفني من القلة التي عارضت ذلك القرار.
في حين نقل عن عباس وصائب عريقات رفضهما القاطع للأمر ولأي وجود عسكري إسرائيلي على الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية الموعودة! ومثلهما فعل رئيس الحكومة الأردنية ووزير الخارجية الذي زعم أن الأمر مجرد "بالون اختبار" إسرائيلي, مكررا قول رئيس الحكومة إن هذا يشكل خرقا لاتفاقية وادي عربة.
وهنا نذكر بأن قرار إقامة حزام مستوطنات إسرائيلية في غور الأردن صدر وشرع فيه بداية عام 2006 في أواخر عهد شارون، حينها أيضا زعمت الحكومة الأردنية أن هذا مناقض لاتفاقية وادي عربة.
وحينها كتبتُ مقالا على الجزيرة نت بعنوان "حكم مستوطنات الغور في اتفاقية وادي عربة"، التي تبيّن اعتماد النهر وحدود الانتداب ونهر الأردن "حدودا دولية"، الأردن شرقها وإسرائيل "غربها"، في حين أن غور الأردن تناولته المادة 20 المعنونة "تنمية أخدود وادي الأردن" وتتحدث عن مشاريع أردنية إسرائيلية أميركية مشتركة لتطوير الغور في مجالات اقتصادية وبيئية وفي مجال الطاقة والسياحة, "سيبذل الطرفان قصارى جهدهما لإتمام التخطيط والسير في تطبيقها".
وهذا يثبت التوافق على إقامة المستوطنات وديمومتها بمشاريع مشتركة تدخل فيها أميركا ويستثنى منها الجانب الفلسطيني.
والمقالة تفصّل بصورة أدق الكثير من إجراءات "أمن إسرائيل" والتي تتبدى "الآن" سواء بوجود القوات الإسرائيلية أو بما يتداول عن دور أمني أردني.
أما زعم رفض عباس وعريقات لمستوطنات الغور ولوجود القوات الإسرائيلية فيه، فتكذّبه "المرجعية المعلنة" للمفاوضات السرية الجارية, أي وثيقة أبو مازن- بيلين.
وتنص الوثيقة على أن "المستوطنات الواقعة في الأغوار والمدرجة في خانة الكثافة السكانية الأقل، والتي ستوضع تحت السيادة الإسرائيلية خلال فترة اختبار النوايا، يحظر على أي فلسطيني استعمال طرقها الالتفافية طيلة المدة المذكورة بحدها الأقصى (السنوات العشرين المسماة فترة اختبار نوايا الفلسطينيين)، ويعاد السماح باستعمالها من قبل الفلسطينيين في نهاية المدة المشار إليها". لاحظ أن الحديث عن استعمال الطرق فقط لكون المستوطنات باقية.
كما "يحظر على السلطة الفلسطينية اتخاذ أي إجراء من طرف واحد يحول دون تطورها (أي تطور تلك المستوطنات) الديمغرافي أو السكني أو العمراني عقب انتقال السيادة عليها للسلطة الفلسطينية".
أي أنه سيجري تطويرها على مدى عشرين عاما أو أكثر (حسب تقييم إسرائيل "لنوايا" الفلسطينيين), أي خلق ما تسميها إسرائيل "حقائق على الأرض", التي تعني بشكل رئيسي "المستوطنات الكبيرة" التي ترفض إسرائيل إخلاءها، وبذريعة تحقيق أمن المستوطنين تحتم وجود قوات إسرائيلية فيها.
هذا إضافة لنص الوثيقة على أنه "في منطقة غور الأردن الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية ستتم إقامة ثلاث مناطق عسكرية، كل واحدة باتساع كتيبة ومحطات إنذار مبكر طيلة المرحلة الانتقالية التي سيتم بعدها نقل الصلاحية, بما فيها معابر الحدود, إلى أيدي الفلسطينيين إذا ثبتت فترة اختبار النوايا".
وحسن النوايا هذا يستحيل أن تقر به إسرائيل, فهي استبقته بتصويت حكومتها منذ الآن على بقاء جيشها في الأغوار.
والأخطر أن تلك الاتفاقية ليست هي المرجعية إلا بقدر ما تلزم الفلسطينيين من تنازلات، في حين أبقي للطرف الإسرائيلي صراحة حرية الإضافة والحذف.
فنص الخبر العبري جاء فيه "ويستلهم الاتفاق (الجديد المنجز في هذه المباحثات السرية والذي سيعلن في مارس/آذار أو أبريل/نيسان المقبل) معظم بنوده من نصوص اتفاقية عباس- بيلين الشهيرة المعدة في العام 1995, والتعديلات التي أجراها الكنيست الإسرائيلي عليه في حينه, إضافة للرتوش الآخذة في الاعتبار مستجدات الثمانية عشر عاما الأخيرة وأبرزها ما يتعلق بالحدود الآمنة لإسرائيل على امتداد نهر الأردن والاعتراف بيهودية الدولة، وشرعنة المستوطنات ذات الكثافة السكانية, والمياه والحدود واللاجئين والقدس".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن "المستوطنات ذات الكثافة السكانية" عام 1995 جرى النص على ضمها كلها لإسرائيل في تلك الوثيقة مدرجة بالاسم, ولكن الضم الجديد سيشمل مستوطنات أخرى أصبحت ذات كثافة سكانية عالية في "السنوات الثماني عشرة الأخيرة", ولكنها ليست وحدها ما تسميها إسرائيل "مستجدات" و"حقائق على الأرض" يجب الأخذ بها، أو "رتوش" يحق لها وحدها إضافتها لأمور بخطورة "الحدود والمياه واللاجئين والقدس"!
أما "حق العودة" المجمع على أنه قلب التسوية, فلا ذكر له في الوثيقة المرجعية حتى بصيغة "لمّ الشمل" المزعومة للتسويق. فالنص بخصوص اللاجئين والنازحين يقول بوجوب أن تحلّ "الأونروا" لتقوم هيئة دولية جديدة تتولى تأهيل اللاجئين والنازحين وتأمين استيعابهم في دول وأماكن إقامتهم الحالية.
وتتكفل حكومة حزب العمل بالتعامل ثنائيا مع الدول المعنية ومع الأطراف الدولية الراعية دونما صخب أو ضجيج، وبما لا يشكل إحراجا للسلطة الفلسطينية, وبممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف والتعامل مع الدول المضيفة بما يضمن إغلاق هذا الملف ببطء بعد أن تعطي لهؤلاء حقوق المواطنة حيث يقيمون!
وهو ذات ما تعلنه المادة 8 من اتفاقية وادي عربة والتي تتحدث عن توطين اللاجئين والنازحين، أي بما يسقط حتى عودة المهجرين من الضفة الغربية عام 1967!
في حين أن وثيقة أبو مازن- بيلين تزيد بالنص صراحة على تهجير جديد للفلسطينيين من أراضي الضفة المحتلة التي ستضم لإسرائيل من "مبدأ إبقاء أقل عدد ممكن من الفلسطينيين في المنطقة التبادلية التي ستُضم في نهاية التسوية إلى إسرائيل", ويصل الأمر للقول صراحة "سيتم نقل ثلاث قرى عربية مجاورة لمستوطنات كفار عتسيون وأرئيل"!
ومن هنا فإننا نعتقد أن "لمّ الشمل" المزعوم لن يطبق إلا على حفنة تنتقيها إسرائيل باليد, ليجري بعده تهجير من داخل الدولة الفلسطينية المزعومة ومن كامل إسرائيل "اليهودية "الموسعة القادمة, "فيُلم شمل" هؤلاء المهجرين الجدد مع من هجّر من أسرهم من قبل.
ويؤيد اعتقادنا هذا ما ورد في اتفاقية أبو مازن- بيلين عن إعطاء "السلطة الفلسطينية" (سلطة حتى بعد زعم الدولة!) حق إصدار تصاريح الدخول المؤقتة وتأشيرات الزيارة "للفلسطينيين بغرض زيارة ذويهم المقيمين".
ولاحظوا تسمية "مقيمين" وليس "مواطني الدولة الفلسطينية" مما يؤشر ليس فقط على رفض لمّ الشمل بل يبرر ترحيل أولئك "المقيمين"!
ويكمل النص في الاتفاقية المرجعية ليقول "شريطة أن لا يمنح هؤلاء حق المواطنة في حدود أراضي السلطة، وذلك بهدف عدم الإخلال الديمغرافي (فيما يحق ذلك الإخلال لإسرائيل عبر إقامة وتوسيع المستوطنات)، ولإسرائيل حق المساءلة في أية حالة يُشتبه فيها دون أي تحفظات، وعلى السلطة الامتثال لحق المساءلة المشار إليه"!
النصوص جاهزة كلها منذ عقدين, والمطلوب لمنح كيري "إنجازا" هو امتثال الشعوب العربية دونما "صخب أو ضجيج".
(الجزيرة)
وبغض النظر عما لحق باليهود قبل توطنهم في أرض فلسطين, فإن مجريات ذلك التوطين وما فعله هؤلاء المستوطنون بأصحاب الأرض, لا جدال في أنه جعل الشعب الفلسطيني هو المغبون غبنا غير مسبوق في التاريخ.
لهذا لا يجوز لإنجاز "الحل الدائم" أن يعتد بما توافق أو لا توافق عليه إسرائيل، ولا يهم حتى توافق كامل الدول العربية والشرق الأوسط أو العالم كلّه عليه، بل المهم مكوّن العدالة للشعب الفلسطيني فيه.
وحتما لا يقبل أن يوزع الغبن على شعوب عربية لتغذية التمدد السرطاني لإسرائيل في المنطقة.
وأبرز غبن يلحق بالشعب الفلسطيني في مشروع حل "جون كيري" هو تغييب أي تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني واختزال ملايينه التي تصنف ضمن الأعلى علما وكفاءة في العالم بشخص محمود عباس.
حتى "وارث المفاوضات" صائب عريقات وفريقه يستثنون, مع أن أيا من هؤلاء لا يملك أيضا أية صفة تمثيلية تتيح له التفاوض عن أهل حي في بلدة فلسطينية أو في مخيم لجوء.
وتجري محاولة تصفية القضية الفلسطينية في وقت أن الشعب الفلسطيني في دول اللجوء العربي كافة أبعد ما يكون عن القدرة على فرض خياراته.
فالفلسطينيون هم الطرف الأضعف في كامل دول الربيع العربي التي يتزايد اتكاء أهلها على جماعاتهم السابقة للدولة على أرضهم (عشائر وقوميات وطوائف), في مواجهة الأنظمة التي تتحكم في تلك الدولة بقبضة حتمت ثورات الشعوب عليها.
بل إن إسناد الشعوب العربية القومية التوجه في غالبيتها, وقواها السياسية للشعب الفلسطيني، غائب أيضا لانشغال تلك الشعوب بثورات ربيعها.
كما تغيب أنظمة كانت داعمة للحقوق الفلسطينية بدرجة أو بأخرى, ومثلها أنظمة وطنية وقومية في طور الولادة والتشكل.
وحال مجمل العرب أصعب من حالهم عندما "جُلبوا" لمؤتمر مدريد (التعبير للأمير حسن بن طلال الذي أسماه توجيه مذكرات جلب للدول العربية)، الذي كانت مخرجاته من أهم ما حتم ثورات الربيع العربي، ويتجلى ذلك بوضوح في شعارات بعضها.
مشروع كيري للتسوية التي يحاول إنضاجها "بسرية" استبقته مصادر إسرائيلية بكشف وجود قناة تفاوض سرية مستمرة بين عباس ونتنياهو منذ ولاية نتنياهو الأولى، رغم زعم توقف المفاوضات.
والأعجب أن موفد عباس السري هنا هو "رجل الأعمال" باسل عقل الذي لم يُسمع باسمه من قبل, مما يُظهر أن مصير الشعب والوطن الفلسطيني هو بالنسبة لعباس "صفقة بزنس"! في حين أن مندوب نتنياهو هو المحامي يتسحاق مولخو رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض في العلن.
ولا يخفى على عاقل أهمية الخبرة التفاوضية والعلم القانوني في إبرام الاتفاقيات. فقد سبق أن بيّنا أنه حين عين الملك حسين، عون الخصاونة (القاضي الدولي بعدها) في فريقه المفاوض على اتفاقية وادي عربة، أقر الخصاونة باستحالة قيامه وحده بالمهمة واشترط, كحد أدنى، الاستعانة برجلي قانون دولي أجنبيين على سوية عالية من الكفاءة والنزاهة.
ولكن أهم ما أضافه هؤلاء للاتفاقية (شروط ومرجعيات التحكيم) جرى التنازل عنه أردنيا!
ويقول المصدر الإسرائيلي إن نتنياهو وعباس حافظا على سرية قناة الاتصال بينهما كي لا يتعرضا "لضغوط سياسية".
واضح أن نتنياهو هو أحد "مصادر" وليس فقط "نتاج" ضغوط المتطرفين الصهاينة, في وقت يريد عباس أن يتصرف بحقوق شعب بأسره دون أية ضغوط من أصحاب الحق, ودونما تكليف انتخابي بحد أدنى من الشرعية!
والأدهى تكشّف أن مرجعية تلك المفاوضات هي وثيقة أبو مازن-بيلين التي أبرمت عام 1995، وتتوجب قراءة مفصلة لبنود الوثيقة/الاتفاقية كونها "كارثية".
ولكن لأغراض هذه المقالة نورد الملخص المقتضب الذي قدمه المؤرخ الفلسطيني ربحي حلوم لنصها المنشور على موقعه, والذي يقول "القدس في أبو ديس والعيزرية.. والأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة "الفاتيكان".. المستوطنات الكبرى باقية.. فترة اختبار نوايا لعشرين عاما.. والدولة منزوعة السلاح.. إلغاء الأونروا واستبدالها بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين، وتوطين اللاجئين في أماكن إقامتهم ودونما صخب"!
وهو ملخص ممتاز ولكنه لا يمكن أن يظهر كم "الشياطين" الهائل القابع في التفاصيل, بدءا بأسماء من حضر اللقاءات التي أنتجت الوثيقة من الجانبين, فيما رعاة المؤتمر أحدهم وزير سويدي والثلاثة الآخرون خبراء قانون دولي وساسة فرنسيون, وفلسطيني وحيد لم يواظب على حضور الجلسات هو الراعي "المموّل" لكل هؤلاء.. أي رجل بزنس آخر!
ولأن إسرائيل خرقت حتى بنود هذه الاتفاقية بما تقرره وتفرضه أحاديا وتسميه "حقائق على الأرض", يلزم التوقف عند بعض هذا مما شكل عناوين رئيسية يجري فيها تضليل "عربي وفلسطيني" للشارع العربي والفلسطيني.
ومن أبرز هذه العناوين قرار حكومة نتنياهو ضم منطقة غور الأردن لإسرائيل. واللافت, والمخجل, أن تكون تسيبي لفني من القلة التي عارضت ذلك القرار.
في حين نقل عن عباس وصائب عريقات رفضهما القاطع للأمر ولأي وجود عسكري إسرائيلي على الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية الموعودة! ومثلهما فعل رئيس الحكومة الأردنية ووزير الخارجية الذي زعم أن الأمر مجرد "بالون اختبار" إسرائيلي, مكررا قول رئيس الحكومة إن هذا يشكل خرقا لاتفاقية وادي عربة.
وهنا نذكر بأن قرار إقامة حزام مستوطنات إسرائيلية في غور الأردن صدر وشرع فيه بداية عام 2006 في أواخر عهد شارون، حينها أيضا زعمت الحكومة الأردنية أن هذا مناقض لاتفاقية وادي عربة.
وحينها كتبتُ مقالا على الجزيرة نت بعنوان "حكم مستوطنات الغور في اتفاقية وادي عربة"، التي تبيّن اعتماد النهر وحدود الانتداب ونهر الأردن "حدودا دولية"، الأردن شرقها وإسرائيل "غربها"، في حين أن غور الأردن تناولته المادة 20 المعنونة "تنمية أخدود وادي الأردن" وتتحدث عن مشاريع أردنية إسرائيلية أميركية مشتركة لتطوير الغور في مجالات اقتصادية وبيئية وفي مجال الطاقة والسياحة, "سيبذل الطرفان قصارى جهدهما لإتمام التخطيط والسير في تطبيقها".
وهذا يثبت التوافق على إقامة المستوطنات وديمومتها بمشاريع مشتركة تدخل فيها أميركا ويستثنى منها الجانب الفلسطيني.
والمقالة تفصّل بصورة أدق الكثير من إجراءات "أمن إسرائيل" والتي تتبدى "الآن" سواء بوجود القوات الإسرائيلية أو بما يتداول عن دور أمني أردني.
أما زعم رفض عباس وعريقات لمستوطنات الغور ولوجود القوات الإسرائيلية فيه، فتكذّبه "المرجعية المعلنة" للمفاوضات السرية الجارية, أي وثيقة أبو مازن- بيلين.
وتنص الوثيقة على أن "المستوطنات الواقعة في الأغوار والمدرجة في خانة الكثافة السكانية الأقل، والتي ستوضع تحت السيادة الإسرائيلية خلال فترة اختبار النوايا، يحظر على أي فلسطيني استعمال طرقها الالتفافية طيلة المدة المذكورة بحدها الأقصى (السنوات العشرين المسماة فترة اختبار نوايا الفلسطينيين)، ويعاد السماح باستعمالها من قبل الفلسطينيين في نهاية المدة المشار إليها". لاحظ أن الحديث عن استعمال الطرق فقط لكون المستوطنات باقية.
كما "يحظر على السلطة الفلسطينية اتخاذ أي إجراء من طرف واحد يحول دون تطورها (أي تطور تلك المستوطنات) الديمغرافي أو السكني أو العمراني عقب انتقال السيادة عليها للسلطة الفلسطينية".
أي أنه سيجري تطويرها على مدى عشرين عاما أو أكثر (حسب تقييم إسرائيل "لنوايا" الفلسطينيين), أي خلق ما تسميها إسرائيل "حقائق على الأرض", التي تعني بشكل رئيسي "المستوطنات الكبيرة" التي ترفض إسرائيل إخلاءها، وبذريعة تحقيق أمن المستوطنين تحتم وجود قوات إسرائيلية فيها.
هذا إضافة لنص الوثيقة على أنه "في منطقة غور الأردن الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية ستتم إقامة ثلاث مناطق عسكرية، كل واحدة باتساع كتيبة ومحطات إنذار مبكر طيلة المرحلة الانتقالية التي سيتم بعدها نقل الصلاحية, بما فيها معابر الحدود, إلى أيدي الفلسطينيين إذا ثبتت فترة اختبار النوايا".
وحسن النوايا هذا يستحيل أن تقر به إسرائيل, فهي استبقته بتصويت حكومتها منذ الآن على بقاء جيشها في الأغوار.
والأخطر أن تلك الاتفاقية ليست هي المرجعية إلا بقدر ما تلزم الفلسطينيين من تنازلات، في حين أبقي للطرف الإسرائيلي صراحة حرية الإضافة والحذف.
فنص الخبر العبري جاء فيه "ويستلهم الاتفاق (الجديد المنجز في هذه المباحثات السرية والذي سيعلن في مارس/آذار أو أبريل/نيسان المقبل) معظم بنوده من نصوص اتفاقية عباس- بيلين الشهيرة المعدة في العام 1995, والتعديلات التي أجراها الكنيست الإسرائيلي عليه في حينه, إضافة للرتوش الآخذة في الاعتبار مستجدات الثمانية عشر عاما الأخيرة وأبرزها ما يتعلق بالحدود الآمنة لإسرائيل على امتداد نهر الأردن والاعتراف بيهودية الدولة، وشرعنة المستوطنات ذات الكثافة السكانية, والمياه والحدود واللاجئين والقدس".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن "المستوطنات ذات الكثافة السكانية" عام 1995 جرى النص على ضمها كلها لإسرائيل في تلك الوثيقة مدرجة بالاسم, ولكن الضم الجديد سيشمل مستوطنات أخرى أصبحت ذات كثافة سكانية عالية في "السنوات الثماني عشرة الأخيرة", ولكنها ليست وحدها ما تسميها إسرائيل "مستجدات" و"حقائق على الأرض" يجب الأخذ بها، أو "رتوش" يحق لها وحدها إضافتها لأمور بخطورة "الحدود والمياه واللاجئين والقدس"!
أما "حق العودة" المجمع على أنه قلب التسوية, فلا ذكر له في الوثيقة المرجعية حتى بصيغة "لمّ الشمل" المزعومة للتسويق. فالنص بخصوص اللاجئين والنازحين يقول بوجوب أن تحلّ "الأونروا" لتقوم هيئة دولية جديدة تتولى تأهيل اللاجئين والنازحين وتأمين استيعابهم في دول وأماكن إقامتهم الحالية.
وتتكفل حكومة حزب العمل بالتعامل ثنائيا مع الدول المعنية ومع الأطراف الدولية الراعية دونما صخب أو ضجيج، وبما لا يشكل إحراجا للسلطة الفلسطينية, وبممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف والتعامل مع الدول المضيفة بما يضمن إغلاق هذا الملف ببطء بعد أن تعطي لهؤلاء حقوق المواطنة حيث يقيمون!
وهو ذات ما تعلنه المادة 8 من اتفاقية وادي عربة والتي تتحدث عن توطين اللاجئين والنازحين، أي بما يسقط حتى عودة المهجرين من الضفة الغربية عام 1967!
في حين أن وثيقة أبو مازن- بيلين تزيد بالنص صراحة على تهجير جديد للفلسطينيين من أراضي الضفة المحتلة التي ستضم لإسرائيل من "مبدأ إبقاء أقل عدد ممكن من الفلسطينيين في المنطقة التبادلية التي ستُضم في نهاية التسوية إلى إسرائيل", ويصل الأمر للقول صراحة "سيتم نقل ثلاث قرى عربية مجاورة لمستوطنات كفار عتسيون وأرئيل"!
ومن هنا فإننا نعتقد أن "لمّ الشمل" المزعوم لن يطبق إلا على حفنة تنتقيها إسرائيل باليد, ليجري بعده تهجير من داخل الدولة الفلسطينية المزعومة ومن كامل إسرائيل "اليهودية "الموسعة القادمة, "فيُلم شمل" هؤلاء المهجرين الجدد مع من هجّر من أسرهم من قبل.
ويؤيد اعتقادنا هذا ما ورد في اتفاقية أبو مازن- بيلين عن إعطاء "السلطة الفلسطينية" (سلطة حتى بعد زعم الدولة!) حق إصدار تصاريح الدخول المؤقتة وتأشيرات الزيارة "للفلسطينيين بغرض زيارة ذويهم المقيمين".
ولاحظوا تسمية "مقيمين" وليس "مواطني الدولة الفلسطينية" مما يؤشر ليس فقط على رفض لمّ الشمل بل يبرر ترحيل أولئك "المقيمين"!
ويكمل النص في الاتفاقية المرجعية ليقول "شريطة أن لا يمنح هؤلاء حق المواطنة في حدود أراضي السلطة، وذلك بهدف عدم الإخلال الديمغرافي (فيما يحق ذلك الإخلال لإسرائيل عبر إقامة وتوسيع المستوطنات)، ولإسرائيل حق المساءلة في أية حالة يُشتبه فيها دون أي تحفظات، وعلى السلطة الامتثال لحق المساءلة المشار إليه"!
النصوص جاهزة كلها منذ عقدين, والمطلوب لمنح كيري "إنجازا" هو امتثال الشعوب العربية دونما "صخب أو ضجيج".
(الجزيرة)