رواية "366".. عن العشق في سنة كبيسة
جو 24 : رغم أن أمير تاج السر يبادر إلى الإشارة في بداية روايته "366" إلى أنها بنيت على وقائعَ حقيقية، استلهمها من رسائل وجدها في حوزته تحت عنوان "رسائل المرحوم إلى أسماء"، فإن السؤال الذي يظلّ ينبش في ذهن القارئ وهو يتوغل في رسائلها العشرين: هل هي حقيقية؟
ولا يغادر صاحب "اشتهاء" في هذه الرواية -المرشحة ضمن القائمة الطويلة للبوكر- "بقعة إيهام القارئ" التي كتب انطلاقا منها رواياته السابقة، لكنه يدلف إلى مناخات جديدة، ولغة مختلفة، أملتها بنية الرواية القائمة على "فن الرسائل".
يتكئ تاج السر على تراث أدبي وثقافي عربي ثري في فلسفة العشق ليقدم في عمله السردي عوالم مشوقة وساحرة عن "الكيميائي" العاشق الذي لم يجد التركيبة المناسبة لتفادي حب خائب.
لا تسمي الرواية المدينة التي احتضنت أحداثها المختلفة، إلا أنها تعج بأسماء الشوارع والنوادي والأشخاص والعطور والأغاني والسيارات والبيوت المعروفة خلال فترة نهاية السبعينيات من القرن العشرين.
أسماء مطموسة
ملامحُ واضحة لمدينة سودانية بلا اسم، يبدو أن الروائي/الراوي أخفاه ليشير إلى التيه الذي يُعد الوجبة الوحيدة على مائدة عشقه المستحيل، في مقابل أنه كشف عن الزمن بالساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنة، وكأنه طبق تلك الحكمة الصوفية التي توصي العاشق بأن يخفي مكان عشقه، ويكشف زمنه، حتى يضمن الخلود لوجعه الذي هو معراج روحه نحو المحبوب.
يشرع "المرحوم" في الحديث عن وجوه عرفها عميقا أو سطحيا في حياته، بما يوحي أنها ستكون من "الكائنات" التي ستؤثث عالم الرواية، غير أنه فجأة يغض "القلم" عنها، ويتركها لمخيلة القارئ، لتتابعها بالحيرة والأسئلة.
ومنها أمه وأبوه وأخوه الذي اختفى في ظروف غامضة، فقد كان مناضلا في حزب البعث العربي الاشتراكي، وبائعة الهوى "نجمية" التي لم تشتهر سوى عامين فقط، ولاعب الكرة "درشة" الذي اختطفته الأضواء العاصمية، و"طلحة رضوان" الذي اشتهر بتجارة العملة منذ كان صبيا.
يحكي "لأسماء" عن وجوهه وأمكنته، بذهن مشوّش، كأنه يريد أن يقول لها إنه يرغب في أن يتطهر من ذاكرته تلك، بأن يصحبها إليها، أو يريد أن يصبح لتلك الوجوه والأماكن معنى، وهو يكتب لها عنها، بحبر أخضرَ أنيق استحوذ على ولعه.
العشق القاتل
نفهم -منذ البداية- أن العدد "366" هو عدد أيام السنة التي أحب فيها المرحوم "أسماء"، أو السنة "اللاهثة" كما سماها، ذلك الحب الذي بدأ بلا أمل، واستمر كذلك. كما يعدّنا الراوي الذي هو "المرحوم" نفسُه -منذ مطلع الرسالة الأولى التي قال إنها رسالة ثورية- لأنْ نتعامل مع وقائع غير مرتبة، فقد اعترف بأنه عدّل فيها كثيرا.
يخبر "المرحوم" معشوقته (ومعها القارئ) بأنه التقاها أول مرة "سخية الجمال، متهورة في السحر والعطر والشعر"، في "النادي الطلياني" الذي ضمّ حفل زفاف أحد أقاربه، وهناك برمج روحه وجوارحه عفويا على حبها، رغم أنه التفت فلم يجدها، ولم يكن يتوفّر على أدنى إشارة على أنه سيلتقيها ثانية.
لا يمنحنا "المرحوم" -وهو يستعرض حياته- تفاصيلَ كثيرة عن طفولته، فقد جعل من ليلة اللقاء بأسماء، مولدَه الحقيقي، ومحطة يخترق الزمن انطلاقا منها، ليتحدث عن ماضٍ قضاه بين عقاقيره -هو أستاذ الكيمياء- وآتٍ لا يعرف ملامحه.
"لماذا أتقلّب في الجمر؟ لماذا أنا هكذا؟"، ليسا سؤالين أملاهما استنكار حالةٍ موجعة، يرغب "المرحوم" في الخروج منها، بل أملاهما حرصُه على أن يتشرّب عشقه ذاك، فيفهمَه، وينطلق من مقام الفهم، إلى مقام اللذة، كاسرا بذلك معيارا يُمليه العقل، هو توفر المحبوب، كشرط من شروط حصولها (اللذة)، وفارضا معياره الخاص.
يتشبّث "المرحوم" بحبه المجانب للعقل، لأنه روّضه على أن تكون له معاييره الخاصة، وأن يتخلص من ذوبانه في زمكان عربي مهيمن على الخصوصيات، ولاغ لروح المبادرة، وصولا إلى تحقيق ذاته، بناء على فهمها فهما داخليا لا خارجيا.
حلم وإصرار
يختار "المرحوم" يوم الجمعة لينقي بيته، تماما مثلما اختار "أسماء" لينقي بحبها روحه وعقله، وما دام يستمتع و"يستفيد" من هذا الحب، فأين الداعي إلى أن يجد له مبررات؟ لذلك فهو يصر على أن يتوغل فيه، ويخلق له مفردات وطقوسا، ويسقيه بين جوانحه، كما تسقى النبتة في تربة ما.
لا تخلو رواية "366" من مفاصل تجعل القارئ يتمنى لو أنها كانت رسائلَ متبادلة بين "المرحوم" و"أسماء"، حتى يتسنى له أن يعرف -هو أيضا- حياة هذه التي "أحبها" من خلال حديث "المرحوم" عنها، لكنه سرعان ما يُغنيه الراوي عن ذلك وبه، من خلال تحليقه في سمائها، والحديث عنها، كما لو أنها راوية الحكاية، رغم أنه لا يعرفها.
كثيرة هي الروايات التي تقدّم لنا حيوات أشخاص كما يحلم بهم الراوي، لا كما هم بالضرورة، لكن "أسماء" في رواية "366" توهمنا هي الأخرى، وتجعلنا نطرح سؤال الحقيقة والخيال، تماما كما فعلنا مع حياة "المرحوم". إنها حلم، صنعته رغبة إنسان عربي في أن "يخرج من رماد نفسه" لا أن يحرقها، باختلاق/خلق الحلم أصلا، قبل التفكير في إمكانية تحقيقه من عدمها.
تنتهي الرواية في الذكرى الأولى من الحب المستحيل، حيث يتخذ "المرحوم" قرارا يقضي بأن يحرق أوراق ذاكرته العائلية، ويدفع إلى فمه ستين قرصا منوما، ليكون آخر فعل يقوم به هو وضع اسم "المرحوم" في آخر الرسائل، وهو لا يدري أنها ستقع في حوزة "أمير تاج السر"، ليحول ما خلفته فيه من أصداء إلى رواية.
ليس مبررا لرواية تشتغل على الحديث مع النفس، أن تخلو من جرعات شعرية، تستوعب مفردات الحلم واليأس والشوق التي حفلت بها، وقد انسجمت رواية "تاج السر" مع طبيعتها في هذا الباب.
تبدأ الرواية أصلا بنص شعري "في الزمان القديم كان ثمة عاشق، كان مغرما بالشمس، يغازلها حين تشرقُ"، ثم تدخل عالمَ السرد، بروح شاعرة، محكومة بوعي حاد من الروائي بحدود عالمي الشعر والنثر، وهو الأمر الذي منح اللغتين القدرة على الإحاطة بالحالة في تجلياتها المختلفة.
(الجزيرة)
ولا يغادر صاحب "اشتهاء" في هذه الرواية -المرشحة ضمن القائمة الطويلة للبوكر- "بقعة إيهام القارئ" التي كتب انطلاقا منها رواياته السابقة، لكنه يدلف إلى مناخات جديدة، ولغة مختلفة، أملتها بنية الرواية القائمة على "فن الرسائل".
يتكئ تاج السر على تراث أدبي وثقافي عربي ثري في فلسفة العشق ليقدم في عمله السردي عوالم مشوقة وساحرة عن "الكيميائي" العاشق الذي لم يجد التركيبة المناسبة لتفادي حب خائب.
لا تسمي الرواية المدينة التي احتضنت أحداثها المختلفة، إلا أنها تعج بأسماء الشوارع والنوادي والأشخاص والعطور والأغاني والسيارات والبيوت المعروفة خلال فترة نهاية السبعينيات من القرن العشرين.
أسماء مطموسة
ملامحُ واضحة لمدينة سودانية بلا اسم، يبدو أن الروائي/الراوي أخفاه ليشير إلى التيه الذي يُعد الوجبة الوحيدة على مائدة عشقه المستحيل، في مقابل أنه كشف عن الزمن بالساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنة، وكأنه طبق تلك الحكمة الصوفية التي توصي العاشق بأن يخفي مكان عشقه، ويكشف زمنه، حتى يضمن الخلود لوجعه الذي هو معراج روحه نحو المحبوب.
يشرع "المرحوم" في الحديث عن وجوه عرفها عميقا أو سطحيا في حياته، بما يوحي أنها ستكون من "الكائنات" التي ستؤثث عالم الرواية، غير أنه فجأة يغض "القلم" عنها، ويتركها لمخيلة القارئ، لتتابعها بالحيرة والأسئلة.
ومنها أمه وأبوه وأخوه الذي اختفى في ظروف غامضة، فقد كان مناضلا في حزب البعث العربي الاشتراكي، وبائعة الهوى "نجمية" التي لم تشتهر سوى عامين فقط، ولاعب الكرة "درشة" الذي اختطفته الأضواء العاصمية، و"طلحة رضوان" الذي اشتهر بتجارة العملة منذ كان صبيا.
يحكي "لأسماء" عن وجوهه وأمكنته، بذهن مشوّش، كأنه يريد أن يقول لها إنه يرغب في أن يتطهر من ذاكرته تلك، بأن يصحبها إليها، أو يريد أن يصبح لتلك الوجوه والأماكن معنى، وهو يكتب لها عنها، بحبر أخضرَ أنيق استحوذ على ولعه.
العشق القاتل
نفهم -منذ البداية- أن العدد "366" هو عدد أيام السنة التي أحب فيها المرحوم "أسماء"، أو السنة "اللاهثة" كما سماها، ذلك الحب الذي بدأ بلا أمل، واستمر كذلك. كما يعدّنا الراوي الذي هو "المرحوم" نفسُه -منذ مطلع الرسالة الأولى التي قال إنها رسالة ثورية- لأنْ نتعامل مع وقائع غير مرتبة، فقد اعترف بأنه عدّل فيها كثيرا.
يخبر "المرحوم" معشوقته (ومعها القارئ) بأنه التقاها أول مرة "سخية الجمال، متهورة في السحر والعطر والشعر"، في "النادي الطلياني" الذي ضمّ حفل زفاف أحد أقاربه، وهناك برمج روحه وجوارحه عفويا على حبها، رغم أنه التفت فلم يجدها، ولم يكن يتوفّر على أدنى إشارة على أنه سيلتقيها ثانية.
لا يمنحنا "المرحوم" -وهو يستعرض حياته- تفاصيلَ كثيرة عن طفولته، فقد جعل من ليلة اللقاء بأسماء، مولدَه الحقيقي، ومحطة يخترق الزمن انطلاقا منها، ليتحدث عن ماضٍ قضاه بين عقاقيره -هو أستاذ الكيمياء- وآتٍ لا يعرف ملامحه.
"لماذا أتقلّب في الجمر؟ لماذا أنا هكذا؟"، ليسا سؤالين أملاهما استنكار حالةٍ موجعة، يرغب "المرحوم" في الخروج منها، بل أملاهما حرصُه على أن يتشرّب عشقه ذاك، فيفهمَه، وينطلق من مقام الفهم، إلى مقام اللذة، كاسرا بذلك معيارا يُمليه العقل، هو توفر المحبوب، كشرط من شروط حصولها (اللذة)، وفارضا معياره الخاص.
يتشبّث "المرحوم" بحبه المجانب للعقل، لأنه روّضه على أن تكون له معاييره الخاصة، وأن يتخلص من ذوبانه في زمكان عربي مهيمن على الخصوصيات، ولاغ لروح المبادرة، وصولا إلى تحقيق ذاته، بناء على فهمها فهما داخليا لا خارجيا.
حلم وإصرار
يختار "المرحوم" يوم الجمعة لينقي بيته، تماما مثلما اختار "أسماء" لينقي بحبها روحه وعقله، وما دام يستمتع و"يستفيد" من هذا الحب، فأين الداعي إلى أن يجد له مبررات؟ لذلك فهو يصر على أن يتوغل فيه، ويخلق له مفردات وطقوسا، ويسقيه بين جوانحه، كما تسقى النبتة في تربة ما.
لا تخلو رواية "366" من مفاصل تجعل القارئ يتمنى لو أنها كانت رسائلَ متبادلة بين "المرحوم" و"أسماء"، حتى يتسنى له أن يعرف -هو أيضا- حياة هذه التي "أحبها" من خلال حديث "المرحوم" عنها، لكنه سرعان ما يُغنيه الراوي عن ذلك وبه، من خلال تحليقه في سمائها، والحديث عنها، كما لو أنها راوية الحكاية، رغم أنه لا يعرفها.
كثيرة هي الروايات التي تقدّم لنا حيوات أشخاص كما يحلم بهم الراوي، لا كما هم بالضرورة، لكن "أسماء" في رواية "366" توهمنا هي الأخرى، وتجعلنا نطرح سؤال الحقيقة والخيال، تماما كما فعلنا مع حياة "المرحوم". إنها حلم، صنعته رغبة إنسان عربي في أن "يخرج من رماد نفسه" لا أن يحرقها، باختلاق/خلق الحلم أصلا، قبل التفكير في إمكانية تحقيقه من عدمها.
تنتهي الرواية في الذكرى الأولى من الحب المستحيل، حيث يتخذ "المرحوم" قرارا يقضي بأن يحرق أوراق ذاكرته العائلية، ويدفع إلى فمه ستين قرصا منوما، ليكون آخر فعل يقوم به هو وضع اسم "المرحوم" في آخر الرسائل، وهو لا يدري أنها ستقع في حوزة "أمير تاج السر"، ليحول ما خلفته فيه من أصداء إلى رواية.
ليس مبررا لرواية تشتغل على الحديث مع النفس، أن تخلو من جرعات شعرية، تستوعب مفردات الحلم واليأس والشوق التي حفلت بها، وقد انسجمت رواية "تاج السر" مع طبيعتها في هذا الباب.
تبدأ الرواية أصلا بنص شعري "في الزمان القديم كان ثمة عاشق، كان مغرما بالشمس، يغازلها حين تشرقُ"، ثم تدخل عالمَ السرد، بروح شاعرة، محكومة بوعي حاد من الروائي بحدود عالمي الشعر والنثر، وهو الأمر الذي منح اللغتين القدرة على الإحاطة بالحالة في تجلياتها المختلفة.
(الجزيرة)