الصيغة واضحة: «وقف القتال» يستلزم «حكومة انتقالية»
لا يريد النظام السوري إعطاء أي رصيد لمفاوضات جنيف، فعندما لاح في الجولة الأولى ما يوحي بأن «اتفاقاً» حصل على إجلاء المدنيين من حمص وإدخال المساعدات الإغاثية اليها، أبدى ليلاً موافقته وفي الصباح أحبط العملية. ثم عاد بعد أيام فوافق لكن على طريقته، أي باتفاق بين محافظ المدينة وممثلي الأمم المتحدة، وعندما بدأ التنفيذ بادر «شبيحة» ما تسمّى بـ «لجان الدفاع الشعبي» الى خرق الهدنة والقصف على قافلة المساعدات. كان ذلك تحذيراً للأطراف الدولية بشأن نمط التعامل الذي يجب أن تتوقعه، ما لم يكن هناك ضغط على المعارضة كي تتعامل مباشرة مع النظام وبشروطه. وفي أماكن عدة كداريا والمعضمية وبرزة وحرستا واليرموك تعمّدت شروط تخفيف الحصار اذلال المواطنين، وفي احدى الحالات جرت تصفية المدنيين الذين خرجوا من المعضمية. وحتى بالنسبة الى حمص بلغت سياسة التجويع حدّ التساؤل لمَن المساعدات اذا كان المدنيون سيغادرون، فيما يكثر الحديث الآن عن هجوم شديد على حمص، بعد الجولة الثانية من التفاوض، طالما أن من بقي فيها هم المقاتلون.
ولماذا التصعيد؟ أولاً، للضغط على المفاوضات نفسها، بالأحرى على وفد المعارضة لحمله على مغادرة جنيف. ثانياً، لأن هذا هو منهج التفاوض الذي تبنّاه النظام. وثالثاً، لأنه عازم على استكمال خطط الحسم العسكري بالاعتماد على الايرانيين و «حزب الله» و «داعش» والميليشيات العراقية، فيتابع التقدّم في جبال القلمون وصولاً الى حمص، ويشنّ هجمات كبيرة في الغوطتين، ومثلها في جبهة حلب التي يريد أن يستعيدها اذ يعتقد أنها باتت هشّة وأن إمطارها بالبراميل المتفجّرة أنهك دفاعاتها. في الأيام الأخيرة كان المقاتلون داخل حلب يتلقون قصفاً من مدافع قوات النظام جنوبي المدينة بالتزامن مع قصف من مدافع «داعش» شماليّها، فيما كانت المروحيّات ترمي براميلها. أكثر من 2500 قتيل منذ عشية افتتاح «جنيف 2» والمفاوضات لم تهتدِ الى نقطة عملية تبدأ منها، على رغم أن البداية الطبيعية والمنطقية أن يُصار الى إلزام الطرفين بحدٍّ أدنى من التهدئة، تعزيزاً للمفاوضات. ولا يحتاج النظام الى ذرائع للتصعيد، فهو يكرر معزوفة «ضرورة أن توقف الدول دعمها للمجموعات الارهابية»، وهو هنا لا يقصد «داعش» بل مقاتلي المعارضة. أما الدعم الايراني - الروسي - العراقي الذي يتلقّاه فيبرره بأنه دعمٌ لـ «الدولة» التي لا يزال يمثّلها. لكن أي دولة هذه التي تستخدم ترسانتها وتستقدم المزيد لتدمير مدنها، وأي نظام هذا الذي يعتقد أنه يستطيع الاستمرار مع كل هذا التقتيل والتدمير والتهجير؟
قبيل الجولة الثانية من المفاوضات، لبّى رئيس «الائتلاف» أخيراً هذه الزيارة المرتقبة لموسكو. ولم يُعرف لماذا وجّه سيرغي لافروف دعوته الى أحمد الجربا اذا كان يريد أن يُسمعه المزيد من الشيء الروسي نفسه، المتكرر منذ ثلاثة أعوام، حتى أنه لم يبدِ أي اهتمام بالجانب الانساني للمأساة السورية طالما أنه لا يستطيع أن يطرح أفكاراً جديدة متقدمة لإنهاء الأزمة. وصف أحد أعضاء وفد المعارضة ما سمعه من كلام لافروف بأنه كان «أسوأ من خطاب وليد المعلم (في افتتاح المؤتمر في مونترو)». وقال آخر كان شارك في زيارة سابقة لموسكو، أيام «المجلس الوطني»، أنه لم يتوقّع تغييراً في الموقف الروسي، لكنه اعتقد أن بدء المفاوضات مناسبة لكلام روسي أكثر اتزاناً وتطلّعاً الى المستقبل، فإذا بالمعارضة أمام الجدار المغلق ذاته وقد ضاعف إمعانه في الانحياز الى نظام بشار الاسد.
افتتحت الجولة الثانية من المفاوضات على جدول أعمال من أربع نقاط اقترحها الوسيط الاخضر الابراهيمي واستمدّها من بيان «جنيف 1». وللوهلة الأولى شعرت المعارضة بأن روسيا استطاعت الضغط لتغيير الأجندة، خصوصاً أن أولى النقاط صار «وقف القتال» وليس «تشكيل هيئة حكم انتقالي» التي تليها. لكن شروح الابراهيمي أكدت تلازم المسألتين، وأن مستقبل العملية السياسية يتوقف على اعلان واضح منذ البداية بأن لدى الطرفين ارادة سياسية كاملة وقوية للتعامل مع هاتين القضيتين. وتعاملت المعارضة مع هذا التغيير ببراغماتية متمسكة بضرورة نقل السلطة في مختلف الأحوال، فيما واصل النظام إصراره على حصر البحث بـ «محاربة الارهاب». ولذلك دافعٌ معروف، اذ يدرك النظام أن وضع ملف «وقف القتال» أو «وقف العنف» على الطاولة سيدخل المفاوضات في متاهة بالغة التعقيد لا يمكن التوصل فيها الى نتائج حقيقية، خصوصاً أنه صاحب خبرة مزمنة في الالتفاف على قرارات وقف النار، لكن الهدف من إصراره عليه هو تجنّب أي بحث تحت عنوان «حكم انتقالي» كونه يشكّل بداية اعتراف بإنهاء حكم الاسد. وكانت تجارب سابقة لـ «وقف العنف» فشلت بسبب عدم استعداد النظام وعدم قدرته على تقديم تنازلات سياسية. فتلك كانت العقدة التي اصطدمت بها المبادرة العربية (2011) ومحاولة كوفي انان (2012)، وها هي تعود الى الظهور في جنيف، ولتعيد كل تفاوض الى نقطة الصفر.
هنا تقفز التفاهمات الاميركية - الروسية الى الأذهان، وإحدى وظائف مفاوضات جنيف توضيح معالم الاتفاق والاختلاف بين الدولتين الكبريين. ذاك أن ثمة اقتناعاً دولياً بالحاجة الى «كيان سياسي - عسكري» مشترك بين النظام والمعارضة ليتولّى الإشراف على ترتيبات «وقف العنف»، وما يجب أن يواكبها من اجراءات للبناء على نتائجها. لا يبدو أن تفاهمات راعيي مؤتمر جنيف بلغت حسم هذا الخيار بعد، وليس مؤكداً أنهما سيبتّان الأمر طوعاً حتى لو شعرا بأن المفاوضات متعثّرة وتحتاج الى معطى جديد لاستنهاض حيويتها. الأرجح أنهما متفقان على الشكل وليس على التفاصيل، فموسكو لا تزال ترى دوراً رئيساً للنظام ولا تتصوّر نجاح أي حل لا يتولّى قيادته، وواشنطن منفتحة على أي صيغة مرنة بالنسبة الى الاسد، لكن ليس أبعد من نهاية ولايته.
لكن نقطة الضعف في التصوّر الروسي أنه يوافق علناً على مبدأ «نقل السلطة» وهو يعرف أن النظام يرفضه رفضاً قاطعاً، كما أنه يشير باستمرار الى الارهاب ومخاطره، إلا أنه يتجاهل الوقائع والحقائق التي تظهر علاقة وثيقة بين تنظيم «داعش» والنظامين السوري والايراني.
من مؤشرات القلق على مصير مفاوضات جنيف أن الدول الغربية تحاول العودة الى اختبار روسيا والضغط عليها، من خلال مشروع قرار لمجلس الأمن بإلزام النظام بإدخال المساعدات الانسانية. اذ إن تجارب حمص ومناطق اخرى نقضت توافقاً ضمنياً على أن يكون الانفراج الإغاثي من اجراءات بناء الثقة بين الطرفين المتفاوضين، وكانت روسيا أيدت هذه الخطوة محبّذةً إبقاءها في اطار التفاوض، غير أن فشلها فرض العودة الى مجلس الأمن. لا شيء يمنع الروس من استخدام «الفيتو» مجدداً لأن تمرير أي قرار، ولو لدوافع انسانية، قد يجرّ الى قرارات اخرى. لم تتأكّد الدول المعنية بعد من أن التمييز بين موقفي روسيا والنظام السوري ليس واقعياً.
في نهاية الجولة الثانية للتفاوض تلوح الضرورة لتدخل الراعيين الاميركي والروسي، فالابراهيمي اتخذ خطوة بحصر نقاط البحث، ومن بينها أيضاً نقطتا «ادارة استمرار مؤسسات الدولة» و «الحوار الوطني والمصالحة»، وبعد عرض خلاصاته على الدولتين سيتعيّن عليهما تحديد خطواتهما اللاحقة حيال طرفي التفاوض. لكن من شأنهما أيضاً الإقرار بما اذا كانت «تفاهماتهما» فاعلة أم تتطلّب اشراك أطراف اخرى. فمن جهة، لا يمكن أن يصبح هدف «وقف القتال» جدياً إلا بوجود إلزام دولي وبتشكيل قوات للفصل والمراقبة، ومن جهة اخرى لا بدّ للقوى الدولية من أن تبلور «صفقة» عملية لتقاسم السلطة وتطرحها على الطرفين. هذا يفترض اقتناعاً روسياً بأن اللعبة شارفت على نهايتها، لكن موسكو تراهن، مثلها مثل النظام.
(الحياة)