التشريع بين مطرقة الخجل والاستحياء وسندان الدماجوجية والاسترضاء
لم أخشَ من هجمة التخوين والاتهام بمناهضة حق الشعوب في تقرير المصير، ولم ولن ترهبني فزّاعة العمالة والخنوع التي يشهرها البعض هذه الأيام في بلدنا العزيز. قالوا لنا أن السياسة فن الممكن، ثم ها هم يفرضون على الناس كل ما هو غير ممكن. لقد أخذ مشروع القانون المعدل لقانون محكمة أمن الدولة مساحةً واسعةً من النقاش والجدل في مختلف الأوساط السياسية والشعبية على مدار الأسابيع الماضية. وكم كان سيثلج الصدر لو أن هذا الجدل استند لمنطق القانون وفلسفته والأثر المتوقع لكل اتجاه ينافح أصحابه عنه. إلا أن ما حدث هو أن البعض أبى إلا أن يقرأ معارضة الاقتراح الذي يقضي بإضافة فقرة تستثني "أعمال مقاومة المحتل الصهيوني" من نطاق تطبيق الفقرة التي تعدد الجرائم الداخلة في اختصاص محكمة أمن الدولة؛ قراءةً مبتسرةً منفصلةً عن سياقها وحقيقتها التي يجلّيها منطق النصوص ونطاق تطبيقها. وقد غاب أو تغيّب عن ذهن البعض أن اقتراح هذا النص بصيغته الحالية إنما ينطوي على اعتراف ضمني من جانب واضعيه أن "أعمال المقاومة" هي من الجرائم المعاقب عليها إلا أنها لا تدخل في اختصاص محكمة أمن الدولة، وإلا فما معنى أن تقول "أستثني من الجرائم التي تختص بها محكمة أمن الدولة أعمال المقاومة؟"، إن هذا يعني وبمفهوم المخالفة أن هذه الأعمال هي جرائم ولكنها مستثناة من ما تنظره تلك المحكمة.
والواقع أنني لست ممن تغلب هواجسهم السياسية أو اندفاعاتهم العاطفية منطقهم ودوافعهم القانونية، لذلك فإنني وبضمير مرتاح أقول أن هذه الفقرة المقترحة هي من أغرب ما يمكن أن تضمنه دولة في قانونها، ففحوى الحكم المقترح يقضي بأن نعتبر أن من هرب سلاحاً أو قام بتفجير مبنى أو حافلة على أرض الأردن بدعوى مقاومة "المحتل الصهيوني"، سوف لن يمثل أمام محكمة أمن الدولة لأن ما قام به ليس من الجرائم الماسة بأمن الدولة! ولعَمري إن هذا لشيء عجاب ما سمعنا به في تشريعات من عاصرنا ولا من هم قبلنا. فإذا ما قال قائل، إن هذه الفقرة تتحدث عن أعمال المقاومة داخل الأرض المحتلة، فإنه يزيد بقوله الأمر غرابةً ونشوزا، حيث أن ما نحن بصدده هو قانون جنائي أو جزائي وطني يعالج الأفعال التي تقع على ارض المملكة ولا يمتد سريانه لدول أخرى إلا في حدود ما تنظمه أحكام السريان المكاني المعروفة في القانون الجنائي التي ليس لها ثمة صلة في مقامنا هذا. ولعله من نافلة القول أن الصواب قد جانب من يرى أن النص صحيح ولكنه ليس في موضعه، وأن موضعه في قانون مكافحة الإرهاب، فهذا قول تعوزه الدقة ويلزمه التدقيق. فليس المشكلة في موضع النص وموقعه، وإنما في أثره ومقصده، وبعبارة أخرى، فإن إحالة النص المقترح لقانون الإرهاب يعني البحث في نفي الصفة الجرمية عن أي أفعال ماسة بأمن الدولة ما دامت من الأعمال التي تُصنّف على أنها مقاومةً للمحتل ولو وقعت على أرض الأردن. وحقيقة الأمر أن من يرددون مثل هذا القول إنما وجدوا فيه فسحةً لدفع الحرج الذي قد تسببه الصراحة المطلقة في مسألة حساسة كهذه. ونعتقد جازمين أن ما يتعلق بأمن الدولة وسيادتها ليس محلاً لا للمساومة أو المجاملة أو المماحكة. وثمة مسألة أخرى جديرة بالبحث، ألا وهي تخصيص مقاومة "المحتل الصهيوني دون غيره"، فإذا كان الغرض هو الانتصاف للشعوب المظلومة فما بالكم لا تطلقون النص بحيث يتساوى من يقاوم المحتل الأمريكي أو بقاياه في العراق وكذلك من "يناضل" من أجل الحرية في سوريا وغيرهم. لقد باتت دعوات وادعاءات التخوين وما شاكلها نغمات نشاز في سنفونية الحرية والتحرر التي كتبها وعزفها الشعب التونسي بإتقان ثم واكبته ولحقته شعوب أخرى تفاوتت في إبداعاتها في مهرجان كسر القيود، إلا أنها تساوت في تصميمها على عدم العودة للوراء مهما كان الثمن، والزعيق والنعيق والتكفير والتشكيك... ما هي إلا أدوات يستدل بها على فكر قائلها ومدى نضجه السياسي.
إنني من مواليد عام 1970، وما فتئ الوطن يضمّض جروحه مما حدث وكان ولا ينبغي أن يكون، ومقترح من هذا النوع؛ من شأنه أن يفتح باباً ما لبث أن أؤوصد بشق الأنفس وشقائها. وقبل القفز لأي نتائج نمطية أقول؛ أنني أتشرف بأن أكون منتسباً لمدينة خليل الرحمن في فلسطين، مدينة آبائي وأجدادي، وفي الوقت نفسه أفخر بأنني مواطن وابن لهذا البلد الذي انطفأ نور عيني على أوجه أهله الطيبين وحارته وأزقته القديمة وما تزال في جسدي علامات تركتها جدرانه وأعمدته في كل مرة كانت تقبل فيها جبهتي ووجنتي وركبتي أثناء سيري بعصاي البيضاء التي تشابه في بياضها قلب هذا الشعب الصابر بكبرياء. فرفقاً بهذا البلد الذي أهدرت ثرواته وتاجر المتاجرون بمقدراته وأثقل أهله بأزماته، رفقاً بهذا البلد الذي حُمّل أبناؤه أوزار عُصاته وهم المتعبدون في ممحرابه، وحُرموا خيراته وثماره وهم روات أرضه وحراسه. رفقاً به فلم يبقَ لنا إلا ما بقي منه.
إنني لا أشكك في نوايا أحد ولا بواعثه فذاك غيب ليس لي إليه سبيل، ولكنني واثق أن تسييس القوانين وتجييرها هو عمل لا يرضاه منصف وذو لب رشيد، وشتان ما بين وضع التشريعات وموضعتها، وما بين تعزيزها وتطريزها.