أفكار مبعثرة حول التعليم الجامعي ومخرجاته
ياسر الزعاترة
جو 24 : كثيرا ما يلحّ علي سؤال يتعلق بهذا الكم الهائل من خريجي الجامعات في بلادنا، وأسأل: ماذا لو تصاعدت عمليات توطين الوظائف في دول الخليج، واضطر مئات الآلاف من خريجي جامعاتنا المغتربين إلى العودة إلى الأردن، كيف سيكون حال العمالة والوظائف والاقتصاد والعيش؟!
في السبعينيات والثمانينيات، كانت المهن التعليمية هي الأكثر رواجا في دول الخليج، وكانت النسبة الأكبر من مغتربينا من معلمي المدارس، ومع مضي برنامج الإحلال لهذه المهنة في تلك الدول، تراجعت نسبة المدرسين بين المغتربين لتحل مكانها المهن الهندسية والتقنية والطبية، وهو ما راكم الطلب على دراسة هذه الفروع حتى بدأ غول البطالة يطالها، على تفاوت بين تخصص وآخر.
مع ظهور الجامعات الخاصة التي ينطبق على بعضها قانون “ادفع تتخرج”، ومع ظهور سياسة التعليم الموازي، وقبل ذلك سياسة الإكمال والإعادة في التوجيهي، ارتفعت نسبة التعليم الجامعي بشكل مذهل، حتى أن بعض الطلبة يعيد التوجيهي مرتين وثلاثا وأربع مرات، ثم ينجح بمعدل منخفض ويذهب لجامعة خاصة، ولا يلبث أن يصبح من حملة البكالوريوس، ولا يذهب للمهن الأخرى سوى القلة، بينما يغطي تلك المهن عمال وافدون، حتى إن البلد لم يعد بوسعه الاستغناء عنهم.
من المفيد القول إن البعدين الاقتصادي والاجتماعي “البرستيج” هما اللذان يحددان غالبا توجهات الناس نحو التعليم، وفي حين يحضر البعد الاقتصادي كعامل أول، يأتي الاجتماعي في المرتبة الثانية، في حين يندر أن تحضر الهواية والمواهب الشخصية في السياق، وغالبا ما يحدد الأهل ما يدرسه أبناؤهم بناء على معدلاتهم في حالة الفقراء ومتوسطي الدخل، بينما يذهب المقتدرون إلى الجامعات الخاصة والموازي ويختارون ما يشاؤون.
تبدأ المعضلة العملية من امتحان الثانوية، ومن فكرة الإكمال والإعادة المتواصلة، وصولا إلى معدلات السماح بالتعليم الجامعي، وهنا يبدو أن البلد عندنا لم يعد يمنع سوى القلة القليلة من مواصلة التعليم الجامعي، حتى أن حث التبرعات لذلك التعليم صار جزءا من العمل الخيري أيضا.
لا توجد أية إستراتيجية رسمية لرسم ملامح المستقبل على هذا الصعيد، إذ أن الفوضى هي السمة الغالبة، ما يعني أننا سنصل إلى الجدار المسدود في لحظة ما لا تبدو بعيدة، وحيث سيتراكم لدينا كم هائل من الخريجين دون عمل، لاسيما إذا مضت برامج توطين المهن في دول الخليج، وبمرور الوقت سيبدأ كثير من أبنائنا يركبون قوارب الهجرة نحو الغرب بحثا عن فرص لحياة أفضل.
تغير هذا الحال لايكون بين يوم وليلة، وإنما نتاج تغيرات جوهرية في المجتمع، وفي البعد الاقتصادي، وتاليا الاجتماعي بمرور الوقت، ففي أوروبا مثلا لا نعثر على هذا الكم الهائل من الإقبال على التعليم الجامعي، والسبب أن ثمة فرصا للعمل والإنجاز من دونهما، وكثيرا ما يكون بوسع الشاب الحصول من دون تعليم جامعي على دخل أفضل في المهن التي يتركها الناس هنا، أو يترفعون عنها.
خذ الدراسات العليا مثلا. هناك في الغرب لا تتعلق بالبرستيج، وإنما تتعلق بحب الثقافة والبحث، فتجد مثلا أن أستاذا جامعيا في العلوم الإنسانية في بريطانيا لا يحصل على دخل يساوي شابا مهنيا لم يكمل دراسته الجامعية، والسبب أن الأول يذهب في ذلك الاتجاه لأنه يحب الثقافة والبحث، وليس لأنه يبحث عن وضع اجتماعي أو اقتصادي أفضل، فضلا عن فعل قانون العرض والطلب.
في بلادنا كمٌ هائل من حملة الشهادات العليا في العلوم الإنسانية، لكن كثيرا منهم متواضعو الثقافة، حتى في تخصصاتهم، والسبب أنهم لم يذهبوا في ذلك الاتجاه حبا في البحث والثقافة، بل من أجل دخل أفضل، ومن أجل برستيج اجتماعي (عقدة الدال)، وإذا بحثوا، فمن أجل الترقية لا أكثر.
لا صلة للنجاح في الحياة بالشهادة الجامعية، إذ يمكن أن ينجح المرء من دونها، لكن على المجتمع والقوانين أن تعينه على ذلك، وتبدأ العملية من الدراسة الثانوية، وحيث لا يجب أن يغدو الحصول عليها شرطا ضروريا لعبور شاطئ الحياة، حتى لو اضطر إلى إعادتها مرات ومرات.
وتبدأ أيضا من تحولات اجتماعية تعلي من قيمة المهن، بل وتضع لها شروطا أيضا، ومدراس حقيقية معتبرة، إذا كيف لميكانيكي أن يكون ناجحا، وهو لا يدرك تركيبة السيارة، وكل ما يعرفه هو أنه إذا حدث للسيارة كذا، فإن الاحتمال هو واحد، اثنان، ثلاثة، وفق عملية تخمين لا تستند إلى أسس علمية صحيحة.
هي أفكار متناثرة، إذا ان معضلة كالتي نحن بصددها تحتاج إلى خبراء من كل التخصصات يجلسون ليفكروا في المستقبل، وكيف يمكن مواجهة معضلة التعليم الجامعي ومخرجاته على نحو يفيد الناس، ويفيد الاقتصاد، ولا يضعنا في مهب المفاجآت.
مؤسف أن يبقى الأمر متروكا للتحولات غير المحسوبة، وإن تكن قادرة في بعض الأحيان (مع قانون العرض والطلب) على تغيير قناعات الناس، وإن بشكل تدريجي، وتغيير توجههم على الصعيد التعليمي، لكن نظام الواسطة في التعيين الذي يضرب جذوره في المجتمع سيبقى قادرا على التخريب، ومنح كثيرا من متواضعي الإمكانات فرصا ليست من حقهم.
(الدستور)
في السبعينيات والثمانينيات، كانت المهن التعليمية هي الأكثر رواجا في دول الخليج، وكانت النسبة الأكبر من مغتربينا من معلمي المدارس، ومع مضي برنامج الإحلال لهذه المهنة في تلك الدول، تراجعت نسبة المدرسين بين المغتربين لتحل مكانها المهن الهندسية والتقنية والطبية، وهو ما راكم الطلب على دراسة هذه الفروع حتى بدأ غول البطالة يطالها، على تفاوت بين تخصص وآخر.
مع ظهور الجامعات الخاصة التي ينطبق على بعضها قانون “ادفع تتخرج”، ومع ظهور سياسة التعليم الموازي، وقبل ذلك سياسة الإكمال والإعادة في التوجيهي، ارتفعت نسبة التعليم الجامعي بشكل مذهل، حتى أن بعض الطلبة يعيد التوجيهي مرتين وثلاثا وأربع مرات، ثم ينجح بمعدل منخفض ويذهب لجامعة خاصة، ولا يلبث أن يصبح من حملة البكالوريوس، ولا يذهب للمهن الأخرى سوى القلة، بينما يغطي تلك المهن عمال وافدون، حتى إن البلد لم يعد بوسعه الاستغناء عنهم.
من المفيد القول إن البعدين الاقتصادي والاجتماعي “البرستيج” هما اللذان يحددان غالبا توجهات الناس نحو التعليم، وفي حين يحضر البعد الاقتصادي كعامل أول، يأتي الاجتماعي في المرتبة الثانية، في حين يندر أن تحضر الهواية والمواهب الشخصية في السياق، وغالبا ما يحدد الأهل ما يدرسه أبناؤهم بناء على معدلاتهم في حالة الفقراء ومتوسطي الدخل، بينما يذهب المقتدرون إلى الجامعات الخاصة والموازي ويختارون ما يشاؤون.
تبدأ المعضلة العملية من امتحان الثانوية، ومن فكرة الإكمال والإعادة المتواصلة، وصولا إلى معدلات السماح بالتعليم الجامعي، وهنا يبدو أن البلد عندنا لم يعد يمنع سوى القلة القليلة من مواصلة التعليم الجامعي، حتى أن حث التبرعات لذلك التعليم صار جزءا من العمل الخيري أيضا.
لا توجد أية إستراتيجية رسمية لرسم ملامح المستقبل على هذا الصعيد، إذ أن الفوضى هي السمة الغالبة، ما يعني أننا سنصل إلى الجدار المسدود في لحظة ما لا تبدو بعيدة، وحيث سيتراكم لدينا كم هائل من الخريجين دون عمل، لاسيما إذا مضت برامج توطين المهن في دول الخليج، وبمرور الوقت سيبدأ كثير من أبنائنا يركبون قوارب الهجرة نحو الغرب بحثا عن فرص لحياة أفضل.
تغير هذا الحال لايكون بين يوم وليلة، وإنما نتاج تغيرات جوهرية في المجتمع، وفي البعد الاقتصادي، وتاليا الاجتماعي بمرور الوقت، ففي أوروبا مثلا لا نعثر على هذا الكم الهائل من الإقبال على التعليم الجامعي، والسبب أن ثمة فرصا للعمل والإنجاز من دونهما، وكثيرا ما يكون بوسع الشاب الحصول من دون تعليم جامعي على دخل أفضل في المهن التي يتركها الناس هنا، أو يترفعون عنها.
خذ الدراسات العليا مثلا. هناك في الغرب لا تتعلق بالبرستيج، وإنما تتعلق بحب الثقافة والبحث، فتجد مثلا أن أستاذا جامعيا في العلوم الإنسانية في بريطانيا لا يحصل على دخل يساوي شابا مهنيا لم يكمل دراسته الجامعية، والسبب أن الأول يذهب في ذلك الاتجاه لأنه يحب الثقافة والبحث، وليس لأنه يبحث عن وضع اجتماعي أو اقتصادي أفضل، فضلا عن فعل قانون العرض والطلب.
في بلادنا كمٌ هائل من حملة الشهادات العليا في العلوم الإنسانية، لكن كثيرا منهم متواضعو الثقافة، حتى في تخصصاتهم، والسبب أنهم لم يذهبوا في ذلك الاتجاه حبا في البحث والثقافة، بل من أجل دخل أفضل، ومن أجل برستيج اجتماعي (عقدة الدال)، وإذا بحثوا، فمن أجل الترقية لا أكثر.
لا صلة للنجاح في الحياة بالشهادة الجامعية، إذ يمكن أن ينجح المرء من دونها، لكن على المجتمع والقوانين أن تعينه على ذلك، وتبدأ العملية من الدراسة الثانوية، وحيث لا يجب أن يغدو الحصول عليها شرطا ضروريا لعبور شاطئ الحياة، حتى لو اضطر إلى إعادتها مرات ومرات.
وتبدأ أيضا من تحولات اجتماعية تعلي من قيمة المهن، بل وتضع لها شروطا أيضا، ومدراس حقيقية معتبرة، إذا كيف لميكانيكي أن يكون ناجحا، وهو لا يدرك تركيبة السيارة، وكل ما يعرفه هو أنه إذا حدث للسيارة كذا، فإن الاحتمال هو واحد، اثنان، ثلاثة، وفق عملية تخمين لا تستند إلى أسس علمية صحيحة.
هي أفكار متناثرة، إذا ان معضلة كالتي نحن بصددها تحتاج إلى خبراء من كل التخصصات يجلسون ليفكروا في المستقبل، وكيف يمكن مواجهة معضلة التعليم الجامعي ومخرجاته على نحو يفيد الناس، ويفيد الاقتصاد، ولا يضعنا في مهب المفاجآت.
مؤسف أن يبقى الأمر متروكا للتحولات غير المحسوبة، وإن تكن قادرة في بعض الأحيان (مع قانون العرض والطلب) على تغيير قناعات الناس، وإن بشكل تدريجي، وتغيير توجههم على الصعيد التعليمي، لكن نظام الواسطة في التعيين الذي يضرب جذوره في المجتمع سيبقى قادرا على التخريب، ومنح كثيرا من متواضعي الإمكانات فرصا ليست من حقهم.
(الدستور)