مصر..الماضي يحكم المستقبل ولو إلى حين
مصر كبيرة وهَامَّة ومِحْوَرَّية إلى الحد الذي لا يسمح لأحد بالتعامل معها ومع مشاكلها باستخفاف , كما لا يسمح لأحد بالقفز إلى استنتاجات وتوقعات تطال مستقبلها بخفة ورعونة وسذاجة . إن حركة الدول الكبيرة هي في العادة بطيئة , ولكنها ما إن تبدأ بالحراك فإن حركتها تصبح أكيدة ومستمرة دون تَسَرُّعْ أو تَهَوُّرْ .
مصر الآن على مفترق طرق , والخيارات أمامها ما زالت في معظمها قيد التشكيل. هنالك دروس قاسية ومؤلمة تعلمتها مصر خلال العامين الماضيين , وهي بصدد إعادة تقييم أولوياتها وتحالفاتها حتى تستخلص العبر وتعيد تشكيل نفسها على ضوء تلك التجارب . ومن أهم تلك الدروس ثلاثة , وهي وإن كانت لا تشكّل مجمل ما تعلمته مصر من تلك التجارب , إلا أنها تبقى من الأهم والأكثر أثراً على مستقبل مصر المنظور .
الدرس الأول الذي تَعَلَمهُ المصريون أن الديموقراطية ليست مقتصرة فقط على صندوق الاقتراع وأنه ليس بالديموقراطية وحدها يحيا الإنسان . هذا الدرس كاد أن يودي بالدولة المصرية ويدمر أسسها ومؤسساتها الوطنية . فخلال فترة حكم الإخوان المسلمين لمصر, أدت محدودية خيارات إنقاذ الدولة المصرية من تبعات برنامجهم العقائدي , إلى وضع المصريين أمام الخيار الحاسم بين الواقعية والرومانسية . فالديموقراطية التي أدت إلى استلام الإخوان المسلمين للحكم في مصر من خلال رئاسة محمد مرسي كان مقدراً لها الزوال على أيدي الإخوان أنفسهم فيما لو استمروا في الحكم كونهم لا يؤمنون بتداول السلطة مع أية قوى أخرى , قومية كانت أو يسارية أو ليبرالية وإنما - ربما - مع قوى إسلامية أخرى . وبعد وضوح طبيعة وأبعاد البرنامج السياسي والعقائدي للإخوان المسلمين والسعي الحثيث لتطبيقه , جاء رد فعل الدولة المدنية في مصر حاسماً في اللجوء إلى الجيش لوضع نهاية لحكم الأخوان , رغم وجود جدل حول ما إذا كان ذلك هو الخيار الوحيد الممكن .
المصريون لم يبنوا خيارهم هذا على مبدأ القبول بعودة حكم العسكر , بقدر ما بنوه على رفضهم لحكم الإخوان . والفرق بين القبول الناتج عن اللاخيار والقبول الناتج عن الاختيار واضح في هذه الحالة . وهكذا , فإن الرغبة في انقاذ الدولة والمجتمع قد وضع المصريين أمام خيار من اثنين : إما السماح بعودة العسكر إلى الحكم حتى ولو تم ذلك بطلب جماهيري واسع , أو زوال الديموقراطية وتحويلها إلى ما يسمى "شورى إسلامية" وتدمير الدولة المدنية المصرية معاً . خيار مؤلم حقيقة خصوصاً وأن ثورة 20 يناير قد طالبت بالتخلص من حكم العسكر وتبعاته والذي دام لأكثر من ستة عقود امتدت خلال رئاسات عبد الناصر والسادات ومبارك .
وبالمقياس نفسه فإن الشعبية الجارفة التي يتمتع بها عبد الفتاح السيسي , وزير الدفاع المصري وقائد الجيش , لا تعكس رغبة مصرية حقيقية في العودة إلى حكم العسكر , بقدر ما تعكس شعوراً شعبياً حقيقياً بأن السيسي يشكل ضماناً لاستمرار المجتمع المدني وقوة الدولة الوطنية وحماية الاستقرار والأمن , أكثر منه أي شيء آخر .
الدرس الثاني يتعلق بالعلاقة الخاصة مع أمريكا والتي أثبتت التطورات الأخيرة أنها ليست الحل السحري لمشاكل مصر , كما أنها ليست الوسيلة المثلى لبناء الدولة المصرية الحديثة . فهذه العلاقة التي وضع أسسها أنور السادات آملاً أن تشكل بديلاً للعلاقة الخاصة بين أمريكا وإسرائيل , أو في أسوأ الأحوال أن تكون موازية لها في الأهمية , قد فشلت , كما اتضح عندما تم تحريك المياه الراكدة عقب سقوط نظام حسني مبارك .
فقد اتضح أن المصالح الأمريكية وخياراتها تتعارض وبشكل فاضح مع المصالح الوطنية المصرية . وقد تجلى ذلك أكثر ما يكون في ثلاث قضايا هي الإسلاميون وسد النهضة في اثيوبيا وإسرائيل . فأمريكا , وتحت ستار احترام الديموقراطية , كانت وما زالت تؤيد بقاء حكم الإخوان المسلمين لمصر, مما يعني موافقتها الضمنية على برنامج الإسلاميين في إضعاف الدولة المصرية وربما إلحاقها مستقلاً بدولة الخلافة الإسلامية . لقد وَلّدَ هذا للموقف الأمريكي شعوراً بالصدمة لدى أوساط عديدة من المصريين الذين كانوا ينظرون إلى العلاقة الأمريكية - المصرية باعتبارها إنجازاً استراتيجياً منسجماً مع المصالح المصرية إلى أن ثبت لهم عكس ذلك بعد التطورات الأخيرة التي تبين فيها مدى دعم أمريكا للإخوان المسلمين . فالبرنامج السياسي والعقائدي للإخوان المسلمين والذي جاء كصدمة للكثيرين لم يشكل أي رادع للأمريكيين لوقف أو حتى تخفيف تأييدهم لهم بل زاد من اصرار أمريكا على وجوب بقاءهم في السلطة خلافاً لمصالح الدولة المصرية التي تربطها بها علاقة خاصة . هذا الموقف دفع الكثيرين في مصر الى إعادة النظر بجدوى خصوصية العلاقة مع امريكا .
وقد ساهم دعم أمريكا وإسرائيل ومباركتهما لمشروع بناء سد النهضة في اثيوبيا , والذي سيلحق أضراراً بالغة بمصالح مصر المائية في نهر النيل في ازدياد هذا الشعور. وفي الواقع , فإن قرار اثيوبيا المضي في هذا المشروع جاء منسجماً مع رغبة إسرائيل في إضعاف مصر بأي طريقة ممكنة وبمباركة أمريكية ومساهمة عربية في التمويل !
أما بالنسبة لإسرائيل , فإن مصالحها تبقى في أعلى سلم الأولويات في السياسة الأمريكية في المنطقة . والعلاقة الخاصة بين مصر وأمريكا , على أهميتها , تأتي في أعقاب تلك العلاقة وليس قبلها أو حتى بشكل موازٍ لها . ودور اسرائيل الإقليمي في المنظور الأمريكي يحظى بالأولوية على دور مصر التاريخي في الأقليم . ومن الواضح أن أمريكا تعمل على إضعاف مصر ودورها حتى تبقى إسرائيل الدولة القائدة في الإقليم دون منازع ودون أي اعتبار لمصالح مصر الأقليمية .
وبالرغم من كل ذلك وعند دراسة معادلات القوة داخل المؤسسة العسكرية والمؤسسة الإقتصادية في مصر , يتضح أن أي حديث عن تخلي مصر عن علاقتها الخاصة مع أمريكا , أو استبدالها بعلاقة خاصة جديدة مع روسيا هو كلام ساذج سياسياً وغير واقعي ولن يحصل . وأقصى ما يمكن أن يحصل هو قيام مصر بإعادة بعض التوازن لعلاقاتها الدولية من خلال تقوية التعاون مع روسيا بهدف إرسال إشارات لأمريكا لتشجيعها على إعادة بعض التوازن لعلاقتها الخاصة مع مصر واحترام المصالح المصرية . أمريكا تعلم ذلك وروسيا تعلم ذلك ولا داعي لبناء الأحلام على أوهام .
الدرس الثالث هو أن ما يجري من تطورات في مصر قد تسبب في إعادة النبض إلى شرايينها العربية بعد طول جفاف . فقد تولد شعور عام لدى معظم المصريين بعد أزمة حكم الإخوان المسلمين بأن العروبة ليست عبئاً أو حمولة زائدة على مصر, بل يمكن أن تكون قيمة مضافة قد تعطي لمصر أكثر مما تأخذ منها , وأن هنالك نهجاً ثالثاً بين نهج عبد الناصر المندفع نحو العروبة ونهج السادات ومبارك المبتعد عن العروبة .
تتلمس مصر الآن طريقها العربي ودورها العربي ببطء , ولكن بثبات , خصوصاً وأن الموقف العربي الداعم لمصر مالياً وسياسياً ضد العدوان الإخواني والغضبة الأمريكية التي تلته دفاعاً عن الإخوان كان واضحاً وقوياً وملموساً في الشارع المصري . وبغض النظر عن الأسباب والدوافع خلف هذا الدعم العربي والتي يفسرها البعض بأنها جاءت رداً سعودياً وإماراتياً على التقارب الأمريكي – الإيراني , إلا أن الأمور تقاس بنتائجها والمصالح المشتركة والمتبادلة قد تكون البديل الأقوى للعلاقة الرومانسية والعقائدية التي سادت في الحقبة الناصرية.
التعبير المصري , الرسمي والشعبي , عن هذا التحول نحو العروبة ما زال في بداياته . ومن الخطأ توقع المعجزات والقفز إلى النتائج في زمن قياسي , خصوصاً وأن مدى هذا التحول وكيفية التعبير عنه قد يأخذ أشكالاً مختلفة بين طبقات وقطاعات الشعب المصري .
فالطبقات الشعبية والأقل حظاً اقتصادياً هي الأكثر استجابة وبشكل عفوي لهذا التحول . وغالباً ما يترجم هذا الشعور من خلال الحنين إلى عهد الناصرية واستذكار أمجاد مصر في عهد عبد الناصر وقيادته للعالم العربي وافريقيا ورعايته لطبقات العمال والفلاحين ورفعه لشعار العدالة الإجتماعية , متناسين قضايا الديموقراطية والحريات باعتبار أن وضعهم فيما يتعلق بالديموقراطية والحريات لم يتحسن خلال عهدي السادات ومبارك , في حين أنهم خسروا الكثير من الامتيازات التي حصلوا عليها في عهد عبد الناصر . إن رد الاعتبار لعهد عبد الناصر يشمل كذلك الرؤيا الناصرية للعروبة والارتباط القومي والعداء للإخوان المسلمين.
أما الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة وطبقة رجال الأعمال فهي تميل إلى ترجمة علاقة مصر بالعالم العربي من منظور مصلحي بحت يسعى إلى إبعاد مصر عن أي مسؤولية تجاه بؤر التوتر العربي , بما في ذلك القضية الفلسطينية . وهم أقرب الى قبول فكر السادات وسياساته ومواقفه تجاه درجة العروبة التي يجب أن تتمتع بها مصر وما قد يترتب على ذلك من مسوؤليات .
لذا فإن الحالمين من العرب الذين يتوقعون أن تعود مصر للعب نفس الدور القومي الذي لعبته خلال حكم عبد الناصر واهمون . فعقارب الزمن لا تعود إلى الوراء أبداً , والتاريخ لا يعيد نفسه . نعم , مصر سوف تلعب دوراً عربياً أكثر نشاطاً في المرحلة المقبلة ولكن من منظور مصري مصلحي وليس من منظور فكري أو عقائدي أو رومانسي .
وأخيراً , قد نكون الآن أمام مصر مختلفه بعد أن خرجت من مخاض عسير كاد أن يودي بها . مصر ترغب بتغيير نفسها نحو الأفضل , لكن مشاكلها أكبر من قدرة أي حكومة على حلها, ومن حقها على الجميع أن تأخذ فترة لألتقاط الأنفاس وهي تستحقها . على العرب أن يساعدوا مصر على أن تكون أكثر إقداماً نحو عروبتها وذلك بعدم الطلب منها ما هو فوق طاقتها, وعدم الطلب منها بالهرولة نحو المجهول عوضاً عن اتخاذ الخطوات الصحيحة المتأنية, وعدم الطلب منها أن تفعل ما هي غير قادرة عليه أو راغبة فيه وهو أن تضع مصالح الآخرين قبل مصالحها , وعدم السماح للكيانات الهامشية الصغيرة جداً من الأعراب بطعن الأخ الكبير من الخلف .