كيف تحدد جماهير الأمة موقفها من الأنظمة؟
ياسر الزعاترة
جو 24 : كانت عبارة “متاجرة الأنظمة بالقضية الفلسطينية” من العبارات السائدة في القاموس السياسي العربي، ما يعني أنها كانت تشير إلى حقيقة كانت موجودة بالفعل، والسبب في تخصيص القضية الفلسطينية بالنص هو أنها كانت، وربما لا تزال رغم تطورات الأعوام الأخيرة، القضية المركزية للأمة.
تحيلنا هذه القضية إلى محددات موقف جماهير الأمة من الأنظمة، ومن الحكام. وهنا ينبغي التفريق بين موقف شعب كل بلد من نظامه، وبين موقف الغالبية من جماهير الأمة، إذ كثيرا ما فرضت الدولة القطرية ومعطياتها تباينا بين الموقفين، حيث حدث مرارا أن كانت المسافة شاسعة بين الموقفين، لأن زاوية النظر لكليهما كانت مختلفة.
وحده عبد الناصر الذي شذّ عن هذه القاعدة خلال العقود السابقة، لكن الموقف ما لبث أن حُسم بعده ليغدو التباين واضحا بين الموقفين في أكثر الحالات، ربما لأن الحقبة التي عايشها الرجل لم تكن من النوع الذي تعلو فيها قيم الحرية والتعددية، إذ كان الغزو الصهيوني لفلسطين طازجا وتبعا له كل مفردات الصراع، مع أن ذلك لا ينفي أن جزءا من الشعب المصري لم يلبث في الأعوام الأخيرة من حكمه أن أخذ يغير موقفه، تحديدا بعد الهزيمة في حزيران 67.
في الحالات الأخرى كان الموقف محسوما بالنسبة لغالبية جماهير الأمة، فهمي من الأنظمة التي تدعم قضية فلسطين وقضايا التحرر ورفض التبعية للغرب، بخاصة الولايات المتحدة بعد تسيّدها المشهد الدولي منذ مطلع التسعينيات إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
كثيرة تجليات ذلك التناقض خلال العقود الأخيرة، فصدام حسين مثلا كان محبوبا بالنسبة لقطاع عريض من جماهير الأمة بسبب موقفه من فلسطين، وتحديه للولايات المتحدة، بينما كان مكروها في الداخل بسبب دكتاتوريته ودموية نظامه. وحين غزا الكويت كان الكويتيون على موقفهم الحاسم، والطبيعي والمفهوم ضده، وربما كان العراقيون كذلك، في حين كانت غالبية جماهير الأمة على غير ذلك، لا لشيء إلا لأن العدو هو الولايات المتحدة (التناقض شمل القوى والحركات السياسية والدينية).
في حالة النظام السوري، لم يكن من السهل أن تُسمع أي سوري موقفا إيجابيا من النظام رغم انتمائه إلى ما عُرف بمعسكر المقاومة والممانعة الذي برز خلال الألفية الجديدة، في حين كان موقف جماهير الأمة مختلفا إلى حد كبير، بخاصة بعد الأسد (الأب) الذي وقف مع حلف حفر الباطن وطارد المقاومة الفلسطينية في لبنان، وقتل من الفلسطينيين الكثير فيها.
على أن الموقف بعد ربيع العرب صار مختلفا إلى حد كبير، فجماهير الأمة التي أرهقها الفساد والاستبداد، ورأت أن الأنظمة لم تفعل شيئا لفلسطين التي رفعت شعارات نصرتها، صارت تقدم مسألة الحرية على ما عداها، ولم تعد تشتري قصة فلسطين كبديل عن الحرية في الداخل، وصار بوسعها أن تنحاز إلى جانب الجماهير الثائرة، حتى لو وقفت ضد من يرفع شعار المقاومة والممانعة، كما تجلى ذلك في الموقف من النظام السوري، وكذلك من وقفوا معه كما هو حال حزب الله.
ولم يتوقف الأمر عند نصرة غالبية الأمة لأي شعب عربي ثائر، بصرف النظر عن مواقف نظامه الخارجية، بل صار موقف النظام من بقية الثورات محددا من محددات الموقف منه بالنسبة إليها، فإذا كان مع الثورات كان الموقف منه إيجابيا، وإذا كان غير ذلك كان الموقف منه سلبيا (يبقى موقف شعبه منه مختلفا، حيث يرتبط بسياساته الداخلية أيضا).
هذه الموجة من مشاعر التحرر في الأمة لم تكن بسبب وصول الفساد والاستبداد ذروته خلال الألفية الجديدة، وسيطرة النخب الحاكمة على السلطة والثروة وحسب، بل أيضا لأن التبعية للخارج صارت أكثر وضوحا، فيما لم تعد المتاجرة بالقضايا القومية مقنعة، لاسيما أن سقف التعاطي الرسمي مع تلك القضايا صار هابطا إلى حد كبير، حتى رأيناها جميعا تجمع على ما عُرف بالمبادرة العربية التي تنازلت عن حق العودة في بيروت عام 2002، بينما كانت دبابات شارون تجتاح الضفة الغربية.
إنها القناعة التي تولدت في الوعي الجمعي للأمة، وهي محقة، ومفادها أنه من دون شعوب حرة، تملك قرارها السياسي، وتتحرر من تبعية الخارج، فإن فلسطين لن تتحرر، ولن يكون لهذه الأمة مكانها اللائق تحت الشمس، ولذلك فإن من يعتقد أن موجة ربيع العرب قد انتهت بما جرى خلال العام الماضي والعام الحالي مخطئ إلى حد كبير، لأن التعثر لا يعني السقوط، بل ربما كان مقدمة لموجة تتلوها موجة وصولا إلى التحرر الحقيقي، كما هو حال الثورات الكبيرة، والتحولات التاريخية الحيوية في سائر الأمم.
(الدستور)
تحيلنا هذه القضية إلى محددات موقف جماهير الأمة من الأنظمة، ومن الحكام. وهنا ينبغي التفريق بين موقف شعب كل بلد من نظامه، وبين موقف الغالبية من جماهير الأمة، إذ كثيرا ما فرضت الدولة القطرية ومعطياتها تباينا بين الموقفين، حيث حدث مرارا أن كانت المسافة شاسعة بين الموقفين، لأن زاوية النظر لكليهما كانت مختلفة.
وحده عبد الناصر الذي شذّ عن هذه القاعدة خلال العقود السابقة، لكن الموقف ما لبث أن حُسم بعده ليغدو التباين واضحا بين الموقفين في أكثر الحالات، ربما لأن الحقبة التي عايشها الرجل لم تكن من النوع الذي تعلو فيها قيم الحرية والتعددية، إذ كان الغزو الصهيوني لفلسطين طازجا وتبعا له كل مفردات الصراع، مع أن ذلك لا ينفي أن جزءا من الشعب المصري لم يلبث في الأعوام الأخيرة من حكمه أن أخذ يغير موقفه، تحديدا بعد الهزيمة في حزيران 67.
في الحالات الأخرى كان الموقف محسوما بالنسبة لغالبية جماهير الأمة، فهمي من الأنظمة التي تدعم قضية فلسطين وقضايا التحرر ورفض التبعية للغرب، بخاصة الولايات المتحدة بعد تسيّدها المشهد الدولي منذ مطلع التسعينيات إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
كثيرة تجليات ذلك التناقض خلال العقود الأخيرة، فصدام حسين مثلا كان محبوبا بالنسبة لقطاع عريض من جماهير الأمة بسبب موقفه من فلسطين، وتحديه للولايات المتحدة، بينما كان مكروها في الداخل بسبب دكتاتوريته ودموية نظامه. وحين غزا الكويت كان الكويتيون على موقفهم الحاسم، والطبيعي والمفهوم ضده، وربما كان العراقيون كذلك، في حين كانت غالبية جماهير الأمة على غير ذلك، لا لشيء إلا لأن العدو هو الولايات المتحدة (التناقض شمل القوى والحركات السياسية والدينية).
في حالة النظام السوري، لم يكن من السهل أن تُسمع أي سوري موقفا إيجابيا من النظام رغم انتمائه إلى ما عُرف بمعسكر المقاومة والممانعة الذي برز خلال الألفية الجديدة، في حين كان موقف جماهير الأمة مختلفا إلى حد كبير، بخاصة بعد الأسد (الأب) الذي وقف مع حلف حفر الباطن وطارد المقاومة الفلسطينية في لبنان، وقتل من الفلسطينيين الكثير فيها.
على أن الموقف بعد ربيع العرب صار مختلفا إلى حد كبير، فجماهير الأمة التي أرهقها الفساد والاستبداد، ورأت أن الأنظمة لم تفعل شيئا لفلسطين التي رفعت شعارات نصرتها، صارت تقدم مسألة الحرية على ما عداها، ولم تعد تشتري قصة فلسطين كبديل عن الحرية في الداخل، وصار بوسعها أن تنحاز إلى جانب الجماهير الثائرة، حتى لو وقفت ضد من يرفع شعار المقاومة والممانعة، كما تجلى ذلك في الموقف من النظام السوري، وكذلك من وقفوا معه كما هو حال حزب الله.
ولم يتوقف الأمر عند نصرة غالبية الأمة لأي شعب عربي ثائر، بصرف النظر عن مواقف نظامه الخارجية، بل صار موقف النظام من بقية الثورات محددا من محددات الموقف منه بالنسبة إليها، فإذا كان مع الثورات كان الموقف منه إيجابيا، وإذا كان غير ذلك كان الموقف منه سلبيا (يبقى موقف شعبه منه مختلفا، حيث يرتبط بسياساته الداخلية أيضا).
هذه الموجة من مشاعر التحرر في الأمة لم تكن بسبب وصول الفساد والاستبداد ذروته خلال الألفية الجديدة، وسيطرة النخب الحاكمة على السلطة والثروة وحسب، بل أيضا لأن التبعية للخارج صارت أكثر وضوحا، فيما لم تعد المتاجرة بالقضايا القومية مقنعة، لاسيما أن سقف التعاطي الرسمي مع تلك القضايا صار هابطا إلى حد كبير، حتى رأيناها جميعا تجمع على ما عُرف بالمبادرة العربية التي تنازلت عن حق العودة في بيروت عام 2002، بينما كانت دبابات شارون تجتاح الضفة الغربية.
إنها القناعة التي تولدت في الوعي الجمعي للأمة، وهي محقة، ومفادها أنه من دون شعوب حرة، تملك قرارها السياسي، وتتحرر من تبعية الخارج، فإن فلسطين لن تتحرر، ولن يكون لهذه الأمة مكانها اللائق تحت الشمس، ولذلك فإن من يعتقد أن موجة ربيع العرب قد انتهت بما جرى خلال العام الماضي والعام الحالي مخطئ إلى حد كبير، لأن التعثر لا يعني السقوط، بل ربما كان مقدمة لموجة تتلوها موجة وصولا إلى التحرر الحقيقي، كما هو حال الثورات الكبيرة، والتحولات التاريخية الحيوية في سائر الأمم.
(الدستور)