منهج القرآن في التأسيس لتداول "الثروة" و"السلطة"(1-2)
نستطيع الجزمَ وبدون أيِّ تحفظات، أن "القرآن الكريم" هو المرجع النَّصِّي الوحيد – وبلا منازع على الإطلاق على مدار التاريخ – الذي وضعَ الأسس الموضوعية لـ "تداول سلطة" حقيقي، عبر بَثِّ أسبابها الحقيقية ذات التأثير الحتمي الذي لا مفر منه في السيرورة التاريخية، في قلب الحياة المجتمعية عامة والاقتصادية منها خاصة، من خلال حزمةِ مبادئه الإستراتيجية المتعلقة بإدارة الثروة في المجتمع، وعلى رأسها مبدأ "تداول الثروة"، الذي أَصَّلَتْه وأسَّست له الآية السابعة من "سورة الحشر": "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فللِّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم...". وبالتالي، فعندما لا تكون الثروة "دولة بين الأغنياء"، فإن السلطة نفسُها لن تكون "دولة بين الأغنياء".
فمادامت الثروة هي التي ستتكَثَّف لتُعَبَّر عن نفسها في السلطة السياسية في نهاية المطاف. فهذا يعني قطعا أن السلطة السياسية هذه، ستتحرك وتدور يمينا أو يسارا، صعودا أو هبوطا، تمركزاً أو انتشاراً، انحصارا أو تداولاً، تَغَيُّراً أو ثباتاً، مع الثروة حيثما تحركت وكيفما دارت. فإذا كانت "الثروة" بيد الفئة أو الطبقة الفلانية، فإن السلطة ستكون حتما بيدها، أو بيد من يمثلها وينوب عنها في إدارة الدولة. وعندما تتغير الطبقة أو الفئة المالكة للثروة أو المتحكمة فيها والممارسة للسيادة عليها، ستتغير حتما الطبقة أو الفئة المتحكمة في السلطة، لتجسِّد حالة التمركز الجديدة في الثروة.
والنتيجة المحتَّمة من كلِّ ذلك، هي أن "السلطة" كي تكون "بيد الشعب"، فإن "الثروة" يجب أن تكون "بيد الشعب"، من حيث وجوب كونه هو صاحب القرار في إدارتها والسيادة عليها. وإذن فإن أهم طموح بشري ناضل من أجله الإنسان، وتفتخر الحضارة الأوربية بأنها توصلت إليه وأنجزته بعشرات الملايين من الضحايا، والذي هو "تداول السلطة" – رغم أنه في شكله الديمقراطي الليبرالي مخادع إلى أبعد الحدود – هو نتيجة مُحَتَّمَة لـ "تداول الثروة" الذي دعا إليه القرآن الكريم، رغم أن المسلمين مع الأسف كانوا وما يزالون أكثر الناس جهلا به ومحاربة له وبعداً عنه.
إنه مبدأ لو تحققت مفاعيله الموضوعية في الواقع بشكلها الصحيح والمعبِّر في كل مرحلة من مراحل السيرورة التاريخية عن متطلبات التداول التي تحتاجها تلك المرحلة، لكان للعالم شكلٌ آخر، ولكان "تداول السلطة" قد غدا واقعا إنسانيا منذ زمن، ولكان قد تطور ليتخذ أشكالاً ما كنا لنتوقعها، قد يحتاج "الإنسان الحالي" إلى عقود طويلة قادمة من الزمن وإلى مديات هائلة من التطور كي يصل إليها.
من هنا فإن المعيار الحقيقي على قرب دولة معينة أو مجتمع معين من "روح القرآن الكريم ومن تعاليمه"، أو على بعدهما عنه، هو تيرموميتر مبدأ "تداول السلطة"، لأنه الدالة الحقيقية على مبدأ "تداول الثروة" الذي هو أهم هدف من الأهداف الإستراتيجية التي أراد القرآن الكريم تحقيقَها في حياة البشر، بعد هدف تخليص الإنسان من خرافات الشرك وسلبيات القَدَرِيَّة المرافقة له، لأن هذا التداول هو أرقى قنوات الحياة تعبيرا عن العدل وعن الحرية. والعدل والحرية هما خلاصة المقصد القرآني وغايته في رحلة تطور الإنسان الأبدية.
في هذه ضوء المعادلة، فإن نظرة سريعة نلقيها على سطح هذا الكوكب المأزوم، لنستقرئَ بها الحضور أو الغياب القرآني عن واقع البشر، تطلعنا على مأساة عَزَّ نظيرها، عندما نكتشف أن أبعدَ الشعوب عن استحضار القرآن الكريم في حياتها، هي الشعوب العربية التي تُعَدُّ أَبعد الأمم عن فكرتي "تداول السلطة" و"تداول الثروة"، على الإطلاق. ونخص بالذكر هنا "جزيرة العرب" التي شاءت المفارقات أن تكون هي الموطن الأول لنزول القرآن الكريم، ومنطلق رسالته إلى كل العالم.
إن هذين المبدأين مرتبطان ارتباطا وجوديا وعضويا لا تنفصم عُراه. فتداولُ الثروة وتداولُ السلطة، هما في علاقتِهما أحدِهما بالآخر، كعلاقة الصحة بالقوة، أو كعلاقة المرض بالضعف في الجسم الواحد. فهما ليسا شيئين مختلفين، لكن وجود أحدهما بالتراتب إلى جانب الآخر ضروري وفقط، بل إن أحدهما هو مُظْهِر للآخر ومجلِّ ومجسِّدٌ له.
لم يكن القرآن الكريم في حاجة إلى أن يتحدثَ عن مسألتي "تداول السلطة" و"تداول الثروة" معا كي نفهمَ أنه يرمي إليهما، ويهدف فيما يهدف إليه، إلى تَحقيقِهما في واقع الحياة الإنسانية. فمادامت كلُّ مسألةٍ منهما مرتبطةً إرتباط وجود بالأخرى، فالإشارة إلى استهدافِ إحداهما كانت كافية لفهم استهدافه الضمني للأخرى. وهو قد أوضح صراحة فَرَضِيَّة "تداول الثروة"، وبالتالي فكأنه أوضح ضمنا فرضية "تداول السلطة". فأيُّما فعلٍ اقتضى فعلاً آخر، فإن وقوعَ الأمر على الفعل الأول يوقِعُه على الآخر بالتَّبَعِيَّة حتما.
إنَّ علاقة الترابط الوجودي بين هذين التداولين، لا تقف عن حدِّ القول بأن تَحَقُّقَ أحدهماَ يؤدي إلى تَحَقُّقِ الآخر، بل إن هناك نوعاً خاصاً من العلاقة بين كلٍّ من الثروة والسلطة، تَجعل من الثروة بناءً تَحتيا لمفاعيل التداول، فيما تَجعل من السلطة بناءً فوقيا لها. ومعنى هذا القول، أن من أراد التَّعَرُّفَ على موقف القرآن من مبدإ "تداول السلطة"، إن لم يَجِدْه واضحا وصريحا في نصوصٍ ذات علاقة بالسلطة ذاتها، عليه أن يبحثَ عنه في موقفه من "تداول الثروة".
أماَّ من أراد التَّعَرُّف على موقف القرآن من مبدإ "تداول الثروة"، فإن عليه البحث عنه في ما ورد من إشارات مختلفة حول مبدإ "تداول الثروة" ذاته، ولا يُكْتَفى بأن تُلاحَظَ إشاراتٌ هنا أو هناك تتعلق بمبدإ "تداول السلطة" لاستنتاج الاتجاه القرآني نحو مبدإ "تداول الثروة"، لأن "تداول الثروة" يؤدي حتما إلى "تداول السلطة"، لكن "تداول السلطة" ليس بالضرورة أن يؤدي إلى "تداول الثروة" رغم كل هذا الترابط الوجودي بين المبدأين.
ولعل هذا ما استطاعت "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ أن تخدع العالم به وتضلِّلُه بحيثياته، عندما أوهمته بالحرية و"تداول السلطة"، مبتلعة بهذا الإيهام، مبدأ العدالة و"تداول الثروة" ما يقارب أربعة قرون من الزمن. لتعود "الثقافة الشيوعية" فتخدعه بالفكرة الضد وتضلِّلَه بها، عندما أوهمته بالعدالة و"تداول الثروة"، مبتلعة بهذا الإيهام، مبدأ الحرية و"تداول السلطة" قرابة ثلاثة أرباع القرن.
تتبدَّى دقَّة القرآن الكريم، عند النظر إلى معالجته للتداولين السابقين، السلطة والثروة..
فهو لم يقدم أي تَصَوُّرٍ نَصِّيٍّ قاطع وبات حول "تداول السلطة"، واكتفى بتقديم بعض التفاصيل القِيَمِيَّة في إدارة السلطة لا تشير في ذاتها إلى مبدأ "التداول" بوضوحٍ يعتدُّ به للقول بأنه يدعو إليه. لكنه كان واضحا وصارما ومُحَدَّداً في تثبيته لفكرة "تداول الثروة"، وفي أمره بكلِّ ما يرفدُها في الواقع بِمقومات التَّحَقُّق والنماء والتطور والاتِّساع.
أي إنه بدأ من النقطة السليمة في المنظور التطوري، النقطة التي يؤدي تَحَقُّقُها في الواقع المجتمعي إلى "تداول السلطة"، إنَّها "تداول الثروة". وهو بِهذا يكون قد حسم الموضوع بشكل تاريخي لا يفرض إملاءاتٍ فوقيةً قد لا تَحتملها الطبيعة القَبَلِيَّة والطبقية للبناء المجتمعي العربي، بل والبشري آنذاك، طارحا تصوُّره العام الواضح لنقطة الانطلاق، تاركا المجال الكامل لكلٍّ من العقل والعلم وهما يحفران في التاريخ، كي ينجزا برفقة نقطة الانطلاق هذه، نقطةَ الوصول.
فمادام البناء الفوقي الذي هو "السلطة" لا تُمكن زحزحَتُه عن الأسس التي تَحكمه زحزحة حقيقية وفاعلة ومنتجة، إلاَّ بزحزحة أسس البناء التحتي الذي هو "الثروة"..
ومادامت زحزحتُه الشكلية أو القِشْرِيَّة التي لا تَنتُج عن "تداول الثروة" أو التي لا تؤدي إليه، غير مُسْتَهْدَفَة قرآنيا، لأن "تداول السلطة" في ذاته، إذا لم يكن تعبيرا عن تَغَيُّرٍ حقيقي في مواقع الثروات في المجتمع، إماَّ بأن يُسَبِّبَها وإماَّ بأن يَنْتُجَ عنها، فهو ليس بذي قيمة كبيرة من حيث المبدأ، بسبب تراكم "اللاعدالة" الذي يمكنه أن ينتج عنه، إذا كان في جوهره تداولا قشْريا وشكليا للسلطة، كما كان عليه حال الحرية في "الديمقراطية الليبرالية" الأوربية وما يزال..
نقول.. مادام واقع العلاقة بين البناءين التحتي "الثروة" والفوقي "السلطة" هو على النحو المشار إليه، فإن الحاجة إلى صدور أحكامٍ مباشرةٍ تتعلق بالبناء الفوقي تفقد قيمتَها الموضوعية، في ظل بناءٍ تَحتي يَحتاج إلى قدرٍ عالٍ وكبيرٍ وطويلٍ من التطور كي يتَحَقَّقَ على أرض الواقع بشكل يؤثر على البناء الفوقي ويمنحُه قدرتَه على صناعة الحرية المجتمعية وإنتاجها، ما جعله يكتسب في خطة القرآن الكريم الأولوية القصوى بوصفه البُنْيَة المجتمعية التي لا مفر من تغييرها وإعطائها صورَتَها الجديدة كي تلحق بِها حتما وضرورةً، البُنْيَة الأخرى وهي "السلطة".
لقد أراد القرآن الكريم أن يتحققَ "تداولُ السلطة" بشكل تلقائي وانسيابي كنتيجة طبيعية لتحققِ تداولٍ أسبق يؤدي إليه قطعا، هو "تداول الثروة"، لأن العكس لا يَحصل بالضرورة، بسبب طبيعة العلاقة بين التداولين كما أوضحنا ذلك سابقا من جهة أولى، وبسبب أن العملَ على تكريس قنوات التطور المجتمعي التي ستُحْدِث "تداولَ الثروة" أمرٌ كافٍ في ذاته لتحقيق الهدف على صعيد "تداول السلطة" من جهة ثانية.
فإذا كان البشر يقتتلون في الظاهر من أجل السلطة وعليها وبسببها في الغالب، دون المساس بالبناء التًّحتي المُكَوِّن لها وهو "تَمركز الثروة"، منتجين تمركزات جديدة فيها، أو محدثين – في بعض الأحيان وأحسنها – تغييرات طفيفة في تلك التمركزات لا تمس الجوهر، بسبب أن التغيير في السلطة لم يأت نتيجة لتداول الثروة أو داعيا إلى تحقيقها، فلتتغير البُنى التحتية إذن، وليكن تَغَيُّرُها هو سبب التداول الحقيقي لسلطةٍ سيفقد المتنافسون عليها عندئذٍ فاعلية السيف لأجل الحظوة بِها.
ولأن "تداولَ الثروة" لم يتحقَّق في معظم مراحل التاريخ الإسلامي ولا تمَّ إنجازه، فإن "تداولَ السلطة" لم يكن ليَحصلَ بالشكل المستهدَف، الأمر الذي جعل تداوُلَها يَحدث بشكله الدموي الذي يَحدث في كل مكان على وجه الأرض ليس فيه تداولٌ للثروة ابتداءً.
إن أيَّ محاولة صَبَّت أو تصب في خانة تقريب المذهب الذي أسَّس له القرآن الكريم، من "الرأسمالية" كنهج اقتصادي، ومن "الديمقراطية الليبرالية" كحاضنة سياسية لهذا النهج، أو تبرير المصالحة المذهبية بينهما...
كما أن أيَّ محاولة صبَّت أو تصب في خانة تقريبه – أي المذهب الذي أسَّس له القرآن الكريم – من "الاشتراكية" كنهج اقتصادي، ومن حاضنتها السياسية "الديمقراطية الشعبية المركزية"..
هي في واقع الأمر محاولاتٌ خدمت على مدار التاريخ، وستستمر في خدمة فكرة انعدام "تداول الثروة" في الحالة الأولى، وانعدام "تداول السلطة" في الحالة الثانية.
وهو الأمر الذي حال بالتالي دون المسلمين المعاصرين ودون تَوَصُّلِهم منذ وقت مبكر إلى آلياتٍ ناجعةٍ لتداول الثروة بشكلٍ جوهري، بعد أن أخضعوا "الثروة" لتَحكُّمِ "الحرية" الوهم في "الديمقراطية الليبرالية"، عندما اختاروا هذه الأخيرة إطارا لقيمتي الحرية والعدالة. كما أنه هو الأمر ذاته الذي حال دونهم ودون توصُّلِهم لاحقا إلى آليات ناجعةٍ لتداول السلطة بشكل جوهري، بعد أن عادوا ليُخْضِعوا "السلطة" لتَحَكُّمِ "العدالة" الوهم في "الاشتراكية والشيوعية"، عندما اختاروا هذه الأخيرة إطارا جديدا لقيمتَي الحريَّة والعدالة، على إثر إدراكهم لفشل الإطار السابق.
إن ما نراه في الوطن العربي تحديدا من أشكالٍ فَجَّةٍ وبشعة من "التَّمركز في السلطة" هو ناتج ابتداءً عن أشكالٍ أبشع وأكثر فجاجةً من "التمركز في الثروة"، في حالةٍ أكثر ما تكون بعداً عن القرآن وعداءً له ومحاربةً لمبادئه وأسسه وأصوله العظيمة.
في سياقٍ تأصيلي متَّصل، نجد خللا عميقا لدى المسلمين في قراءة قيمتي "الحرية" و"العدالة" بحسب منطوق النص القرآني..
إننا نراهم يحمِّلون ذلك النص ما لا يحتمله، ويلوون عنقه ليتجاوبَ مع معادلاتٍ في "تحريك الثروة"، تستجيب لتصوراتهم في "إدارة السلطة". ولأن تصوراتِهم في "إدارة السلطة" هي في جوهرها أقل إتاحة للحرية من "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، فقد كان من الطبيعي أن تكون هوامش "تداول الثروة" وفضاءاتِها في ظلِّ هيمنة منظوماتِهم التأصيلية للسلطة، أقل إتاحة للعدالة مما تتيحه "الديمقراطية الليبرالية" ذاتُها، على هُزال وضحالة العدالة التي تتيحها هذه الأخيرة.
على الجهة المقابلة، وكردةِ فعلٍ لا تختلف كثيرا عن تلك التي اجتاحت الثقافة الأوربية، بسبب استفحال أزمات أوربا والعالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما وصلت "الرأسمالية الحارسة" إلى ذروة تراكم "اللاعدالة" في حاضنة الحرية الوهم، ألا وهي "الديمقراطية الليبرالية"، فأنتجت العدالة الوهم في الدعوة إلى "الاشتراكية والشيوعية"
نقول.. في ردة فعل لا تختلف عن تلك التي أنتجت الشيوعية في أوربا، اجتاحت بعض المسلمين للأسباب نفسِها، قراءات مختلَّة وغير متوازنة للنص القرآني وللإسلام عموما فيما يتعلق بقيمتي "الحرية" و"العدالة"، ولكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس لاختلال القراءة التي أنتجت الإسلام الأقرب إلى "الرأسمالية" وإلى "الديمقراطية الليبرالية"، بحثا عن تخريجاتٍ تحرِّرُ القرآن الكريم من رأسماليته وليبراليته اللتين صُبِغَ بهما جراء القراءات المختلة السابقة، ليغدوَ وفق القراءات المختلة الجديدة، قرآنا اشتراكيا وشيوعيا، انصبَّ جهد قارئيه على هذا النحو، نحو البحث عما يجعله كتابا يؤصِّل للعدالة الوهم وإن يكن على حساب الحرية.
ونسي هؤلاء وهؤلاء، في غمرة غرقهم في أتون ردات فعلٍ تاريخية متتابعة..
مرةً باللجوء إلى البحث في القرآن الكريم عن أرضية، تؤكد سبقَه لليبرالية أو انسجامَه معها على أقل تقدير، فأضاعوا العدالة التي رسم القرآن معالمها، بعد أن انبهروا بحريةٍ موهومة حُرِموا من نظيرتها لمئات السنين فقدموها على العدالة..
ومرةً باللجوء إلى البحث فيه عن أرضية تؤكد سبقَه للاشتراكية وللشيوعية أو انسجامَه معهما على أقل تقدير، فأضاعوا الحرية التي رسم أيضا معالمها، بعد أن انبهروا بعدالةٍ موهومة حُرِموا من نظيرتها أكثر مما حرموا من الحرية، فقدموها على هذه الأخيرة..
نقول.. نسي هؤلاء وهؤلاء في غمرة ذلك التيه المعرفي والثقافي، أن "الحرية" و"العدالة" معا هما عماد "الحياة الإنسانية الكريمة"، وأن القرآن الكريم الذي أراد أن يرسمَ للإنسانية معالم هذه الحياة الكريمة، ما كان ليؤسِّسَ لحرية تبتلع "العدالة"َ كما فعلت "الديمقراطية الليبرالية"، ولا لعدالة تبتلع "الحرية" كما فعلت "الاشتراكية والشيوعية"..
فكانوا في هذه وتلك خارجين عن جادة الصواب ومجانبين للحقيقة، ومجافين للقراءة الموضوعية للنص القرآني، بالقدر نفسه الذي كان فيه الأوربيون كذلك منذ أربعة قرون، عندما أسَسوا للرأسمالية بالديمقراطية الليبرالية، وبالقدر نفسه الذين كانوا فيه كذلك منذ قرن ونصف، عندما أسسوا للاشتراكية والشيوعية، مجانبين للحقيقة ومجافين للمنطق، وواقعين إما في دائرة الأفعال الآثمة بالتأصيل لحرية ابتلعت العدالة في "الديمقراطية الليبرالية"، أو في دائرة ردات الفعل القاصرة بالتأصيل لعدالة ابتلعت الحرية في "الاشتراكية والشيوعية".
فلا كانت تلك "حرية" ولا كانت هذه "عدالة"، لأن هاتين القيمتين وجهان لعملة واحدة هي "الكرامة الإنسانية"، فإذا خدِشَت إحداهما أو مُسَّت، فقد خُدِشَت الكرامة الإنسانية أو مُسَّت.
النص القرآني بحاجة إلى قراءةٍ تتحرَّر من موروثات الثقافتين اللتين ضللتا قارئي الخطاب القرآني، عندما قرؤوه وهم واقعون تحت تأثير الانبهار بهما، والاعتقاد بحتمية نتائجهما، واليقين بأن إحداهما هي النموذج الحقيقي لتجسيد "الحرية"، وإن يكن على حساب العدالة التي تمَّ تطويعها قرآنيا لتستجيب لهذه الحرية النموذج، وبأن الأخرى هي النموذج الحقيقي لتجسيد "العدالة"، وإن يكن على حساب الحرية التي تمَّ تطويعها قرآنيا لتستجيب لهذه العدالة النموذج.
والأهم من كل ذلك، فإن قارئي النص القرآني يجب أن يتحرروا – فضلا عن تحرُّرِهما من هذين الموروثين الحديثين تاريخيا – من موروثٍ أعمق وأقدم تاريخيا، هو ذلك الموروث الذي ما يزال المسلمون بسببه يعتقدون بأن النصَّ القرآني يُنْتِجُ لنا كلَّ "العدالة" وكلَّ "الحرية" في السياقات المطلقة والمذهبية، فيغلقون كلَّ الأبواب أمام منجزات العقل المذهبية في سياق استكمال عمليات التأصيل القِيَمِيَّة، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بقيمتي "الحرية" و"العدالة".
فما لم نتحرَّر في قراءتنا للخطاب القرآني من هذه الموروثات الثلاثة، لنقرأه من ثمَّ بحيادٍ وتجرُّدٍ..
قائمٍ من جهة أولى على عدم بذل الجهد المعرفي المتصَنَّع والمُتَكلَّف لخلق أواصر التقارب بين التأصيل القرآني وبين أيِّ منظومة قائمة للحرية والعدالة، فقط لأن هذه المنظومة أو تلك تعجبنا، أو تريحنا، أو تستجيب لبنيتنا المعرفية الخاصة أو حتى لمصالحنا، وجعل هذا التقارب إن حصل، تقاربا ينتُج بشكل معرفي تلقائي وحقيقي ومؤصل بلا تعسُّف..
وقائمٍ من جهة ثانية على ضرورة الاعتراف بأن العقل هو الوعاء المعرفي الذي يؤَسِّس للقيم في سياقها المذهبي المطلق، وأن أيَّ توافق بين مُعطى العقل المعرفي ومُعطى النص القرآني، ليس نصرا للعقل، بل هو نصر للنص، لأن العقل هو الأصل والنص هو التابع له..
نقول.. ما لم نقرأ النص القرآني بحيادٍ وتجرُّدٍ قائم على الأمرين السابقين، فلن نتمكن من إجراء القراءة المنتِجَه له، ولن نوفَّق في فهم رسالته في الوجود، ولن ننجح في التوصل إلى المعادلات التي أسَّسَ لها، وتلك التي تأسَّس عليها، لبناء المجتمع الإنساني القائم على الكرامة بوجهيها "الحرية" و"العدالة".
وهذا ما سنحاول أن نبدأ به ملتزمين بالنهج المعرفي المحايد والمجرد الذي ألزمنا به أنفسَنا، كي نصل إلى النتيجة الصحيحة في فهم الرؤية القرآنية في "الحرية" وفي "العدالة"، وبمعنى أكثر دقة وعمقا، كي نصل إلى فهم رؤيته في "تداول السلطة" وفي "تداول الثروة".. ..