الأمن فريضة واللحية نافلة
فهمي هويدي
جو 24 : انتظرنا طويلا أن يقوم ضباط الشرطة بدورهم فى إعادة الأمن والانضباط إلى الشارع المصري، لكننا فوجئنا أن بعضهم مشغولون بإطلاق لحاهم! كأننا صُمنا ثم أفطرنا على بصلة، كما يقول المثل الشائع. وفي حين ظللنا مهجوسين بأمن البلد وإعمار مصر، فإن أصحابنا هؤلاء كانوا مهمومين بزيادة حظوظهم من الحسنات وتبييض صفحتهم في الآخرة، وغير مقتنعين فيما يبدو أن إشاعة الأمن في البلد يحقق لهم ما يريدون وأكثر؛ لأنهم بما دعوا إليه ربما نفعوا أنفسهم، ولكنهم بأدائهم لواجبهم يقدمون خدمة جليلة لمجتمعهم، وفي الحديث النبوي أن «خير الناس أنفعهم للناس».
ليس معروفا على وجه الدقة عدد الراغبين في إطلاق لحاهم من ضباط الشرطة والأمناء، لكن الثابت أن قضيتهم أصبحت حاضرة بصورة شبه يومية في الإعلام المصري، سواء باعتباره مادة للإثارة، أو لإشاعة الاستياء والبلبلة، وأخشى أن يستمر النفخ في المسألة بما يجعلها تحتل مكانها ضمن ملفات المرحلة وأولوياتها؛ الأمر الذي يجعلنا إزاء مشهد يختلط فيه العبث بالكوميديا والدراما في الوقت نفسه.
لست أخفي أنه لم يخطر ببالي يوماً ما أن أشترك فى مناقشة موضوع لحى ضباط الشرطة، الذي لم آخذه في البداية على محمل الجد؛ إذ لم أتوقع أن تصبح المسألة محلا للمناقشة أصلا، لكن يبدو أن الأجواء الراهنة خلطت الأوراق وأعادت ترتيب الأولويات في قطاعات كثيرة بما في ذلك قطاع الشرطة (قرأت أن الموضوع أثير في اجتماع المشير طنطاوي مع ضباط القوات المسلحة).
وقد سئلت في الموضوع ذات مرة فقلت إن فتح الملف في طور تأسيس النظام الديمقراطى الجديد يعد نوعا من العبث، وإن الاشتراك في مناقشته من قبيل الاستدراج للإسهام فى العبث، لكني لاحظت أن الموضوع كبر في رأس البعض، ربما بسبب الإلحاح الإعلامي المشهود؛ وهو ما دفعنى إلى تغيير رأيي في الدعوة إلى تجاهله، ومن ثم اعتبرت إثم الحديث فيه أخف وطأة من إثم استدعاء الملف وإشاعة البلبلة في مصر بسببه. وعند الاختيار بين الاثمين أو المفسدتين جاز لي أن أقبل مؤقتا بالمفسدة الصغرى؛ لتجنب وقوع المفسدة الأكبر، إعمالاً للقاعدة التي قررها الأصوليون في فقه الموازنات.
ما عندي في الموضوع لا يتجاوز كلمتين، واحدة في التأصيل الشرعي للمسألة، والثانية في تنزيلها على حالة رجال الشرطة في مصر.
في الأولى سألت الدكتور علي جمعة مفتى مصر، فعلمت منه أنه أصدر فتوى في الموضوع، ردا على رسالة تلقاها في شهر فبراير الماضي من مساعد وزير الداخلية اللواء محمد نجيب حسن، وجاء في نص الفتوى: «إن الفقهاء اختلفوا فى حكم إطلاق اللحية قديما وحديثا؛ فذهب فريق إلى أنها من سنن العادات وليس من الأمور العبادية، وأن الأمر الوارد بإطلاقها في الأحاديث النبوية هو أمر إرشاد لا أمر وجوب أو استحباب». وهو ما ذهب إليه بعض العلماء المتأخرين، وفي المقدمة منهم الشيخ محمد شلتوت، الإمام الأكبر، والشيخ محمد أبو زهرة، وآخرون من علماء الأزهر.
فهمت من الفتوى أن أغلب القائلين بهذا الرأى من الأحناف، أما القائلون بأن إطلاق اللحية سنة مستحبة فأغلبهم من المالكية والشافعية، أما الحنابلة فقد حرموا حلق اللحية وأفتوا بوجوب إطلاقها.
أشارت الفتوى إلى أن عادة العسكر من شرطة وجيش جرت منذ مئات السنين على حلق لحاهم، فلم تتحول المسألة إلى قضية تثير ضجة حول مدى الطاعة والخروج عن التعليمات. وكانت لاختلاف العلماء فيها مندرجة دائما تحت قاعدة «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه»، كما ذكر الإمام السيوطي.
خلاصة رأى دار الإفتاء كانت كما يلي: من ارتضى أن يدخل إلى كليات الشرطة يكون قد اختار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، واختيار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر جائز.
هذا الرأي سمعته أيضا من الدكتور حسن الشافعي كبير مستشاري شيخ الأزهر ورئيس مجمع اللغة العربية، والشيخ جمال قطب مسؤول الإفتاء السابق بالأزهر. وعند الاثنين فالوجوب لا محل له، وأن الاستحباب وثيق الصلة بالعرف الذى يختلف من بلد إلى آخر. وقد جرى العمل في دول الخليج على السماح للعسكريين بإطلاق لحاهم، إلا أن العكس هو الذي استقر في مصر (الدكتور الشافعي قال إن المسألة يمكن أن تفتح بابا للفتنة فى البلد؛ جراء تعامل الضباط الملتحين مع الأقباط).
في تنزيل الأمر على الواقع المصري الراهن، فإننى أزعم أن استعادة الأمن في مصر واجب الوقت والفريضة التى يتعين الوفاء بها، وكل ما عدا ذلك من مهام الشرطة أو التزاماتهم نوافل تالية في الأهمية والترتيب، والإثم الحقيقي هو أن تقدم النافلة على الفريضة، الذي هو في هذه الحالة خطأ في حق الدنيا والدين في ذات الوقت.
يتداول الأزهريون فيما بينهم قصة الشيخ الكفيف الذي مد يده ليربت على رأس أحد تلاميذه، فما كان من الأخير إلا أن قال له إن تلك لحيته وليست رأسه، فنهره الشيخ قائلا بدلا من أن تربى ذقنك، ليتك فعلت شيئا مفيدا فربيت بعض الدجاج لتنفق من عائدها على نفسك، بدلا من أن تترك أبوك يكد ويكدح لكي ينفق على تربيتك!
ليس معروفا على وجه الدقة عدد الراغبين في إطلاق لحاهم من ضباط الشرطة والأمناء، لكن الثابت أن قضيتهم أصبحت حاضرة بصورة شبه يومية في الإعلام المصري، سواء باعتباره مادة للإثارة، أو لإشاعة الاستياء والبلبلة، وأخشى أن يستمر النفخ في المسألة بما يجعلها تحتل مكانها ضمن ملفات المرحلة وأولوياتها؛ الأمر الذي يجعلنا إزاء مشهد يختلط فيه العبث بالكوميديا والدراما في الوقت نفسه.
لست أخفي أنه لم يخطر ببالي يوماً ما أن أشترك فى مناقشة موضوع لحى ضباط الشرطة، الذي لم آخذه في البداية على محمل الجد؛ إذ لم أتوقع أن تصبح المسألة محلا للمناقشة أصلا، لكن يبدو أن الأجواء الراهنة خلطت الأوراق وأعادت ترتيب الأولويات في قطاعات كثيرة بما في ذلك قطاع الشرطة (قرأت أن الموضوع أثير في اجتماع المشير طنطاوي مع ضباط القوات المسلحة).
وقد سئلت في الموضوع ذات مرة فقلت إن فتح الملف في طور تأسيس النظام الديمقراطى الجديد يعد نوعا من العبث، وإن الاشتراك في مناقشته من قبيل الاستدراج للإسهام فى العبث، لكني لاحظت أن الموضوع كبر في رأس البعض، ربما بسبب الإلحاح الإعلامي المشهود؛ وهو ما دفعنى إلى تغيير رأيي في الدعوة إلى تجاهله، ومن ثم اعتبرت إثم الحديث فيه أخف وطأة من إثم استدعاء الملف وإشاعة البلبلة في مصر بسببه. وعند الاختيار بين الاثمين أو المفسدتين جاز لي أن أقبل مؤقتا بالمفسدة الصغرى؛ لتجنب وقوع المفسدة الأكبر، إعمالاً للقاعدة التي قررها الأصوليون في فقه الموازنات.
ما عندي في الموضوع لا يتجاوز كلمتين، واحدة في التأصيل الشرعي للمسألة، والثانية في تنزيلها على حالة رجال الشرطة في مصر.
في الأولى سألت الدكتور علي جمعة مفتى مصر، فعلمت منه أنه أصدر فتوى في الموضوع، ردا على رسالة تلقاها في شهر فبراير الماضي من مساعد وزير الداخلية اللواء محمد نجيب حسن، وجاء في نص الفتوى: «إن الفقهاء اختلفوا فى حكم إطلاق اللحية قديما وحديثا؛ فذهب فريق إلى أنها من سنن العادات وليس من الأمور العبادية، وأن الأمر الوارد بإطلاقها في الأحاديث النبوية هو أمر إرشاد لا أمر وجوب أو استحباب». وهو ما ذهب إليه بعض العلماء المتأخرين، وفي المقدمة منهم الشيخ محمد شلتوت، الإمام الأكبر، والشيخ محمد أبو زهرة، وآخرون من علماء الأزهر.
فهمت من الفتوى أن أغلب القائلين بهذا الرأى من الأحناف، أما القائلون بأن إطلاق اللحية سنة مستحبة فأغلبهم من المالكية والشافعية، أما الحنابلة فقد حرموا حلق اللحية وأفتوا بوجوب إطلاقها.
أشارت الفتوى إلى أن عادة العسكر من شرطة وجيش جرت منذ مئات السنين على حلق لحاهم، فلم تتحول المسألة إلى قضية تثير ضجة حول مدى الطاعة والخروج عن التعليمات. وكانت لاختلاف العلماء فيها مندرجة دائما تحت قاعدة «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه»، كما ذكر الإمام السيوطي.
خلاصة رأى دار الإفتاء كانت كما يلي: من ارتضى أن يدخل إلى كليات الشرطة يكون قد اختار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، واختيار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر جائز.
هذا الرأي سمعته أيضا من الدكتور حسن الشافعي كبير مستشاري شيخ الأزهر ورئيس مجمع اللغة العربية، والشيخ جمال قطب مسؤول الإفتاء السابق بالأزهر. وعند الاثنين فالوجوب لا محل له، وأن الاستحباب وثيق الصلة بالعرف الذى يختلف من بلد إلى آخر. وقد جرى العمل في دول الخليج على السماح للعسكريين بإطلاق لحاهم، إلا أن العكس هو الذي استقر في مصر (الدكتور الشافعي قال إن المسألة يمكن أن تفتح بابا للفتنة فى البلد؛ جراء تعامل الضباط الملتحين مع الأقباط).
في تنزيل الأمر على الواقع المصري الراهن، فإننى أزعم أن استعادة الأمن في مصر واجب الوقت والفريضة التى يتعين الوفاء بها، وكل ما عدا ذلك من مهام الشرطة أو التزاماتهم نوافل تالية في الأهمية والترتيب، والإثم الحقيقي هو أن تقدم النافلة على الفريضة، الذي هو في هذه الحالة خطأ في حق الدنيا والدين في ذات الوقت.
يتداول الأزهريون فيما بينهم قصة الشيخ الكفيف الذي مد يده ليربت على رأس أحد تلاميذه، فما كان من الأخير إلا أن قال له إن تلك لحيته وليست رأسه، فنهره الشيخ قائلا بدلا من أن تربى ذقنك، ليتك فعلت شيئا مفيدا فربيت بعض الدجاج لتنفق من عائدها على نفسك، بدلا من أن تترك أبوك يكد ويكدح لكي ينفق على تربيتك!