مدرسة السجن
سعود قبيلات
جو 24 : أهدي مقالي, هذا, إلى المعلِّمين الذين ناضلوا مِنْ أجل قيام نقابتهم.. مَنْ ترشَّح منهم لانتخاباتها ومَنْ لم يترشَّح; مَنْ فاز بالانتخابات ومَنْ لم يفز.
لقد تشرَّفتُ, ذات زمنٍ بعيد, بأنْ كنتُ زميلاً لهم; فقد عملتُ معلِّماً في مدرسة سجن المحطَّة, عندما كنتُ سجيناً فيه. وتولّيتُ, بشكلٍ خاصّ, تدريس الصفّ السادس الابتدائيّ (محو أُمِّيَّة), في تلك المدرسة, جميع دروسه المقرَّرة. وكان مِنْ تلاميذي, سجين محكوم بالإعدام بجناية القتل العمد. وقد كتبتُ مِنْ وحي مشاهدتي اليوميَّة له, وتأمّلي لحالته كإنسان ينتظر الموت في أيّ لحظة, وتأثّري العميق بذلك, قصَّتي "رحيل", ذات الطابع الوجوديّ, المنشورة في كتابي "بعد خراب الحافلة". كما كان مِنْ تلاميذي, أيضاً, لصوص محكومون ببعض قضايا "الكسر والخلع", و"السطو المسلَّح", و"النصب والاحتيال".. الخ; وسجين محكوم بجناية التعامل مع العدوّ, وآخر كان مناضلاً في تنظيمٍ سياسيّ وأصبح الآن عضواً في قيادته.
وكنتُ, آنذاك, أدرِّس, أيضاً, صفَّ التوجيهيّ, في المدرسة نفسها, منهاج التاريخ. وأحد تلاميذي, في ذلك الصفّ, أصبح الآن إعلاميّاً معروفاً.
وكان مِنْ زملائي المعلِّمين في تلك المدرسة, وجميعهم كانوا سجناء: هاشم غرايبة, الأديب الأردني المعروف, وعماد الملحم, وهو الآن معلِّم في التربية. وقد كان دائم الحركة في أرجاء السجن; يُدرِّس تلاميذه, ويعلِّم نفسه أشياء كثيرة, ويخدم كلّ مَنْ يحتاج إلى خدمته من السجناء, بغضّ النظر عن نوع القضايا التي سجنوا بسببها وموقفه منها. وكان هاشم غرايبة يشبِّه عماد بالفراشة لكثرة تنقّله بين أماكن السجن والمساجين. ومِنْ زملائي, كذلك, نبيل الجعنينيّ, الذي كان مسيحاً حقيقيّاً; يتفقَّد جميع السجناء, يوميّاً, على اختلاف أسباب سجنهم; ويساعدهم, ويرعاهم, ويحلّ مشاكلهم; بوصفه رئيس لجان السجناء المنتخب. وبصفته, هذه, أيضاً, كان مدير مدرسة السجن. وهذا إضافة إلى مشاركته بالتدريس, ومسؤوليَّته عن سينما السجن ومكتبته, وعن الدورات التي كانت تُعقد فيه آنذاك. كما أنَّه كان يعمل منفرداً في عيادة السجن.
وكان السجناء ينتخبونه, باستمرار, رئيساً للجنة الثقافيَّة وللجان جميعاً.
لقد كان سجن المحطَّة, آنذاك, يعيش وضعاً غريباً جدّاً; فبينما كانت البلاد, بمجملها, ترزح تحت وطأة الأحكام العرفيَّة, كان سجناء ذلك السجن يملكون حقّ إدارة شؤونهم اليوميَّة, وحلّ مشاكلهم بأنفسهم, وتنظيم حياتهم, وانتخاب ممثّليهم والمشرفين على إدارة شؤونهم الداخليَّة.. كلَّ عام.
ويجدر بي, الآن, أنْ أنوِّة بذكاء وحنكة مدير السجن في تلك الفترة, العقيد غالب الضمور, الذي كان مسؤولاً, بشكلٍ خاصّ, عن هذه المفارقة الفانتازيَّة بين السجن وبين البلاد ككلّ. كثيراً ما اصطدمنا به, آنذاك, نحن السجناء السياسيين, واشتدَّ الصراع, بيننا وبينه, لأسباب لا مجال لذكرها هنا. لكنَّني, مع ذلك, أجد أنَّ مِنْ واجبي, الآن, الإفصاح عن إعجابي بأسلوبه الحكيم في الإدارة.
كانت مدرسة السجن, في ذلك الوقت, تابعة لمديريَّة تربية منطقة المحطَّة, وكان ثمَّة مشرف تربويّ, مِنْ تلك المديريَّة, يزور السجن, مِنْ حينٍ لحين, لفحص عمل المدرسة, هو الأستاذ حمزة منصور; القيادي الإسلاميّ المعروف الآن.
لقد بدأتُ مقالي, هذا, بالحديث عن مدرسة السجن; أي المدرسة التي كانت فيه; وأنهيه, الآن, بالحديث عن السجن, نفسه, بوصفه مدرسة.
العرب اليوم
لقد تشرَّفتُ, ذات زمنٍ بعيد, بأنْ كنتُ زميلاً لهم; فقد عملتُ معلِّماً في مدرسة سجن المحطَّة, عندما كنتُ سجيناً فيه. وتولّيتُ, بشكلٍ خاصّ, تدريس الصفّ السادس الابتدائيّ (محو أُمِّيَّة), في تلك المدرسة, جميع دروسه المقرَّرة. وكان مِنْ تلاميذي, سجين محكوم بالإعدام بجناية القتل العمد. وقد كتبتُ مِنْ وحي مشاهدتي اليوميَّة له, وتأمّلي لحالته كإنسان ينتظر الموت في أيّ لحظة, وتأثّري العميق بذلك, قصَّتي "رحيل", ذات الطابع الوجوديّ, المنشورة في كتابي "بعد خراب الحافلة". كما كان مِنْ تلاميذي, أيضاً, لصوص محكومون ببعض قضايا "الكسر والخلع", و"السطو المسلَّح", و"النصب والاحتيال".. الخ; وسجين محكوم بجناية التعامل مع العدوّ, وآخر كان مناضلاً في تنظيمٍ سياسيّ وأصبح الآن عضواً في قيادته.
وكنتُ, آنذاك, أدرِّس, أيضاً, صفَّ التوجيهيّ, في المدرسة نفسها, منهاج التاريخ. وأحد تلاميذي, في ذلك الصفّ, أصبح الآن إعلاميّاً معروفاً.
وكان مِنْ زملائي المعلِّمين في تلك المدرسة, وجميعهم كانوا سجناء: هاشم غرايبة, الأديب الأردني المعروف, وعماد الملحم, وهو الآن معلِّم في التربية. وقد كان دائم الحركة في أرجاء السجن; يُدرِّس تلاميذه, ويعلِّم نفسه أشياء كثيرة, ويخدم كلّ مَنْ يحتاج إلى خدمته من السجناء, بغضّ النظر عن نوع القضايا التي سجنوا بسببها وموقفه منها. وكان هاشم غرايبة يشبِّه عماد بالفراشة لكثرة تنقّله بين أماكن السجن والمساجين. ومِنْ زملائي, كذلك, نبيل الجعنينيّ, الذي كان مسيحاً حقيقيّاً; يتفقَّد جميع السجناء, يوميّاً, على اختلاف أسباب سجنهم; ويساعدهم, ويرعاهم, ويحلّ مشاكلهم; بوصفه رئيس لجان السجناء المنتخب. وبصفته, هذه, أيضاً, كان مدير مدرسة السجن. وهذا إضافة إلى مشاركته بالتدريس, ومسؤوليَّته عن سينما السجن ومكتبته, وعن الدورات التي كانت تُعقد فيه آنذاك. كما أنَّه كان يعمل منفرداً في عيادة السجن.
وكان السجناء ينتخبونه, باستمرار, رئيساً للجنة الثقافيَّة وللجان جميعاً.
لقد كان سجن المحطَّة, آنذاك, يعيش وضعاً غريباً جدّاً; فبينما كانت البلاد, بمجملها, ترزح تحت وطأة الأحكام العرفيَّة, كان سجناء ذلك السجن يملكون حقّ إدارة شؤونهم اليوميَّة, وحلّ مشاكلهم بأنفسهم, وتنظيم حياتهم, وانتخاب ممثّليهم والمشرفين على إدارة شؤونهم الداخليَّة.. كلَّ عام.
ويجدر بي, الآن, أنْ أنوِّة بذكاء وحنكة مدير السجن في تلك الفترة, العقيد غالب الضمور, الذي كان مسؤولاً, بشكلٍ خاصّ, عن هذه المفارقة الفانتازيَّة بين السجن وبين البلاد ككلّ. كثيراً ما اصطدمنا به, آنذاك, نحن السجناء السياسيين, واشتدَّ الصراع, بيننا وبينه, لأسباب لا مجال لذكرها هنا. لكنَّني, مع ذلك, أجد أنَّ مِنْ واجبي, الآن, الإفصاح عن إعجابي بأسلوبه الحكيم في الإدارة.
كانت مدرسة السجن, في ذلك الوقت, تابعة لمديريَّة تربية منطقة المحطَّة, وكان ثمَّة مشرف تربويّ, مِنْ تلك المديريَّة, يزور السجن, مِنْ حينٍ لحين, لفحص عمل المدرسة, هو الأستاذ حمزة منصور; القيادي الإسلاميّ المعروف الآن.
لقد بدأتُ مقالي, هذا, بالحديث عن مدرسة السجن; أي المدرسة التي كانت فيه; وأنهيه, الآن, بالحديث عن السجن, نفسه, بوصفه مدرسة.
العرب اليوم