jo24_banner
jo24_banner

عقوبة الإعدام في الاردن بين القبول والرفض !

د.عبد الناصر جابر الزيود
جو 24 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه آجمعين . وبعد :
يقول تعالى في محكم التنزيل :(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ).سورة المائدة :الآية 32.ويقول تعالى:(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). سورة البقرة: الآية 179.
مما دفعني للكتابة والتعليق على ما تم تنفيذه من خلال إيقاع عقوبة الإعدام على مجموعة من الاشخاص في الاردن يوم أمس ، هو قراءتي لتعليق لأحد اساتذة المحاماة الكبار في الاردن على الحادثة بقوله : من المؤسف ان استيقظ صباح اليوم على خبر إعدام 11 محكوما.واعتبر العودة لتنفيذ احكام الاعدام انتكاسة وتراجعا للنظريات الحديثة في العقاب ومحاولة للعودة للنظريات التاريخية التي تفرض هذه العقوبة. وايدته في ذلك محامية متخصصة ايضاً في قضايا القتل والتي اكدت رفضها لهذه العقوبة معللة رفضها بان الهدف من العقاب هو الردع وان قوة الردع في الاعدام تزول بالتنفيذ بينما تبقى مستمرة لسنوات في حال حكم بالسجن مدى الحياة.كما أضافت ان تنفيذ عقوبة الاعدام بحق المحكومين بهذه العقوبة تعني اننا عاقبناه بنفس الاسلوب الذي استخدمه القاتل ورفضناه جميعا فكيف نرفض تصرفه ونرد عليه بالمثل .
ولأن ظاهرة القتل أزادات في مجتمعنا الاردني المحافظ مما اصبح يشكل خطرا على امن البلاد والعباد أحببت أن أعلق على هذا الامر وما أثير حوله من ردود أرى ان الأكثرية منها مع تنفيذ هذه العقوبة والعودة اليها من اجل تحقيق الاستقرار للبلاد والعباد بل أرى أن هذا الامر يستدعي منّا جميعا المساهمة بالتعليق عليه وابداء الرأي حوله وليس الامر خاصا او متعلقا بعلماء الشريعة في الاردن دون غيرهم .
أقول أنه قد يتحامل البعض على الشريعة الإسلامية وكأنّها أولُ مَن نصّ وشرّع عقوبة الإعدام، مع أنّها موجودةٌ في الشرائع السماوية والأرضية القديمة والمعاصرة، وتمتد جذورها امتداد الوجود الإنساني على وجه الأرض، وتنوّعت الاجتهادات القانونية حول الجرائم الموجبة لها، واختلفت الدول فقط في تكييفها وتصنيفها مثل: جريمة القتل والرّدة والتجسّس والخيانة العظمى والتسميم والجرائم الجنسية كالزّنا والاغتصاب واللواط والاتجار بالبشر والاتجار بالمخدرات والفرار إلى العدو.. وغيرها.
وإذ يدعو الإسلامُ الإنسانَ أن يعيش سموّ إنسانيته ويجعل من تقديسه للحقّ في الحياة : ميثاقَ الشّرف في العيش المشترك مع غيره، وإذ يغوص الإسلام في أعماق نفسه البشرية وملامسة ماهيته الفطرية فلكي يجعل من عقوبة الإعدام حالة شاذة تبقى كمادةٍ وقائية تتضاءل مساحتها في الواقع، فالعقوبة شُرِّعت وقائيةً للزّجر قبل أن تكون تنفيذيةً للعلاج.
وقد قدّس الإسلامُ الحقَّ في الحياة ، واعتبر قتل النّفس - أيَّ نفسٍ مهما كان دينها أو عِرقها أو جنسها - كقتل الناس جميعا, كما قال تعالى: ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعا).
فلسفة العقوبة في الإسلام : وهي الفلسفة لا تزال عقول البشر قاصرة عن بلوغها، إذ تقوم على مبدأ الموازنة بين حق الضحية في الحياة واستحقاق المجرم للعقوبة، وبين حفظ الحق الفردي للإنسان وحفظ الحق العام للمجتمع، واعتبار العقوبة شخصية لا تطال إلا فاعلها كما قال تعالى:(كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة).(المدثر: 38). كما أنها عامةٌ لا يُستثنى منها أحد، كما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ بحديثه المشهور: .. وَايْمُ الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
وكما قرّر الإسلام المساواة بين الجميع أمام القانون، فإنه كذلك ساوى في التشريع - منطقيا - بين العقوبة وبين حجم الجريمة وخطورتها ( إذ أنّ قسوة العقوبة من وحشية الجريمة )، فنفس المجرم كَيَدِ السارق : ( لمّا كانت أمينة كانت ثمينة ولمّا خانت هانت )، قال تعالى:(وجزاءُ سيئةٍ سيّئة مثلها). (الشورى :40).وقال:(وكتبنا عليهم فيها أن النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص).المائدة:45.
كما أسّس مبدأَ العقوبةِ على الحكمة البالغة في زجر المجرم وحفظ حياته وحياة غيره بعدم تورّطه في القتل فيُقتل، وبالتالي حفظ المجتمع من جرأة المجرمين على الدّم، قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )، (البقرة:179)، تتقون أي تخافون العقوبة بالمِثل فتنزجرون عن الجريمة ابتداءً ، وهو ينظر بتشريعه لعقوبة الإعدام بتكامل التصوّر الإسلامي للحياة (دنيوية وأخروية)، فهي وإن كانت إلغاءً لحق الجاني في الحياة الدنيا "..جزاءً وِفاقا.." فإنها من منظور آخر تطهيرٌ له من عقوبة الآخرة ، ومن هنا ندرك أنّ إعدام الجاني هو امتثالٌ لأمر الله تعالى - واهب الحق في الحياة وآخذها - وليس تشفِّيًا عُنفيًّا أو انتقاما بشريا .
الضوابط الشرعية لعقوبة الإعدام : ومع أن الإسلام يقرّ عقوبة الإعدام لمن تجرّأ على الحق المقدّس في الحياة، إلا أنّه يتشدّد في الضوابط الشرعية لها وعدم التساهل فيها والجرأة عليها، ومن هذه الشروط:
أولاً: الأهلية الجنائية : بأن يكون بالغا، عاقلا ، مختارا غير مكره، متعمّدا غير مخطئ ، ظالما غير مدافعٍ عن نفسه .
ثانياً: إثبات العقوبة من إثبات الجريمة:قال صلى الله عليه وسلم:ادرأوا الحدود بالشبهات، ومن طرق الإثبات :الإقرار والبيّنة (الشهود)، وبالتالي فهي تُبنى على اليقين لا على الظّن
ثالثاً: التخيير في القتل العمدي:لأولياء المقتول في الرِّضى بالعِوض (الدّية والكفاّرة)،أما في الحدود الأخرى فهي من حقوق الله تعالى ولا تسقط بالعفو أبدا.
رابعاً :مراعاة الكيفية في التنفيذ: بحيث تكون سريعةً ولا تُسبق بتعذيبٍ، وأما الرّجم فهي خاصّة بالزّاني المُحْصَن (المتزوج)، وهو بالنّص الذي لا اجتهاد معه .
ما يسمى بصحوة الضّمير الإنساني : في سنة 1996م أعلنت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن عمليات الإعدام العلنية منافية للكرامة الإنسانية، وقد تباهت منظمة العفو الدولية أنه في سنة: 2000م (أي بعد مرور:50 سنة عن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، قد بلغ عدد الدول التي ألغت هذه العقوبة في القانون أو في التنفيذ إلى:108 من أصل:195دولة ، وفي سنة:2001م انعقد مؤتمرٌ بفرنسا اعتُبر أنه: أولَ مؤتمرٍ عالمي لمناهضة عقوبة الإعدام، وذلك بالاشتراك مع منظماتٍ برلمانية وهيئاتٍ دولية، وكانت ذروة الجهود الدولية في هذا الشأن هو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة غير الملزِم في:20 ديسمبر2007م، والذي يدعو إلى تجميد عقوبة الإعدام تمهيداً لإلغائها نهائيا، وتمّ اعتماده بموافقة: 104 دول، ومعارضة :54 دولة، وامتناع: دولة 29 عن التصويت .
إلا أنه لم يكن كتابا مقدّسا ولا وَحْيًا منزّلا، ويمكن اعتباره متناقضا مع ميثاق المنظمة نفسها، وبالتالي فهو باطلٌ من أساسه، لأنه يتدخّل في صميم الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، حيث قرّرت الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة بأنه: "ليس في هذا الميثاق ما يسوِّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطات الداخلية لدولةٍ ما..".لأن : التشريع الجنائي وقوانين الأحوال الشخصية لا يمكن عولمتها مثل التشريعات التجارية والاقتصادية التي تعبّر عن المصالح المادية وليست انعكاسا لفلسفة الشرائع والأديان والخصوصيات الثقافية للشعوب .
ادّعاءات ومفارقات منظمات حقوق الإنسان :
1-تطالب المنظمات الحقوقية ذات التوجّهات الإيديولوجية التغريبية بتقليص عدد الجرائم التي يُعاقب عليها بالإعدام،وقَصْرها على الجرائم ذات العواقب القانونية الخطيرة؛ وذلك طِبقًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه سنة 1966م، وفي هذه المطالبة في حدّ ذاتها إقرارٌ بوجود هذه العقوبة والإبقاء عليها، وإنما الاختلاف في تكييف جرائمها وتصنيفها، إذ لا يوجد معيارٌ متفقٌ عليه بين فلاسفة الأخلاق والقانون يحدّد ذلك .
2-الإدّعاء بأن عقوبة الإعدام وحشية وقاسية لا تليق بحقوق الإنسان، ويمكن استبدالها بالسجن المؤبد لأن وظيفة الدولة والمجتمع هي الإصلاح وليس الانتقام، وبالمنطق نفسه نقول: ألا يُعتبر السجن المؤبد كذلك اعتداءٌ على كرامة الإنسان وعلى حقّه في الحرّية؟. وما الفائدة من إصلاحه مع الإبقاء عليه في السجن؟.
3-تدّعي هذه المنظمات أن عقوبة الإعدام تتعارض مع روح الكرامة الإنسانية ومفهوم الحق في الحياة، ولكنها تنظر بعين المجرم ولا تدافع عن حقوق الضحية، كما لا تراعي مشاعر وآلام ذويها وحقّها في القصاص. وتترك الباب مفتوحا لقضايا قتل اخرى ستحصل نتيجة وقوع الجريمة الاولى وهي ما تسمى بالدول العربية بقضايا الثأر .
4-الدول التي تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام معتبرةً أنها من أبشع الجرائم وأقساها بحق الإنسانية هي نفسها التي تمارس وتتواطأ على الجرائم ضد الإنسانية في حق شعوبٍ بأكملها؟.ولا تزال تمجّد جرائمها وتأخذها العزّة بالإثم في ذلك إلى الآن .
5-الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام رأفة بالإنسان وأن الدّولة لا تقوم بنفس فعل المجرم، هو : تسطيحٌ مفضوح للمسألة وتعاطفٌ مرفوض مع المجرم على حساب الضحية، وهو هدرٌ لكرامته وتنازلٌ عن حقّه في الحياة كذلك (وكأنّ حياة المجرم أقدس من حياة الضحية). وهي تسويةٌ غير عادلة بين حقّ الدولة في العقوبة وبين وحشية المجرم في جرأته على الدماء وبدون مبرّر.
6-الإدّعاء أن أحكام الإعدام تُبنى على الظّن، وأنّ الخطأ فيها لا يُستدرك لا يكفي مبرّرا في إلغائها نهائيا إذا ثبتت بالدليل القطعي، كما أن الإسلام بريءٌ من بعض الجرائم التي يُعاقب عليها بالإعدام،وبالتالي فالمطالبة بإلغائها لا يصطدم مع الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث:النّفس بالنّفس، والثيّب (المتزوج) الزّاني، والتّارك لدينه المفارق للجماعة"، (أي المرتد ).
7-الإدّعاء بأن عقوبة الإعدام لا تخلق حالة الرّدع: نرى أن الدول التي ألغت عقوبة الإعدام قد تزايدت عندها الجريمة وتطوّرت أشكالها وعادت إليها بقوة، وثبت بالدليل الواقعي كذب مقولة : انعدام فاعلية الإعدام كأداةٍ للرّدع، ونتيجة لسياسة "اللاّعقاب" و"اللاّردع"، ولذلك نجد دولا ألغت هذه العقوبة ثمّ عادت إليها ، وأنّ : 36 ولاية من أصل:50 من الولايات المتحدة الأمريكية تعمل بها .
8-ادّعاء المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام أن الله تعالى هو واهبُ الحقِّ في الحياة ولا يجوز لأحدٍ سلب هذا الحق، ويمكن الردّ عليهم: بأن الله تعالى هو مَن شرّع القصاص، وإذا كان سلب الحياة مِلكا لله وحده فكيف تقدّس الشعوب حقَّ الدفاع عن الوطن وعن النّفس؟. وكيف تصنّف ردّ العدوان وقتل المعتدين بالبطولة والنصر؟.
9-الإدّعاء بالتكيّف مع الاتفاقيات الدولية الموقّعة: وهو نوعٌ من الهيمنة والعولمة القانونية، والاعتداء على الخصوصيات الثقافية والدينية للشعوب والجرأة على السيادة الوطنية للدول، والغريب أن بعض الأحزاب التي تدّعي الدفاع عن السيادة تجدها تتهافت على الاتفاقيات الدولية التي تكاد تكون بديلةً عن الحق الوطني في التشريع، والاعتداء الصارخ على المؤسسات السيادية المنتخبة والاستيراد الكلّي للتشريعات.. فعقوبة الإعدام تدخل في صميم الاختصاص التشريعي والسيادي لكلّ دولة .
واخيراً وليس آخراً هل صحيح ان العودة لتطبيق عقوبة الاعدام بحق من يستحقها هو من باب : العودة لتنفيذ احكام الاعدام انتكاسة وتراجعا للنظريات الحديثة في العقاب ومحاولة للعودة للنظريات التاريخية التي تفرض هذه العقوبة .
لا والله والف لا ، واننا نشد على يد الحكومة الاردنية من أجل أن تسير قدما بتنفيذ العقوبة على كل من يستحقها وهي خطوة على الطريق الصحيح، وبذلك وبذلك فقط يتحقق الامن والامان للبلاد والعباد ، لان من امن العقوبة اساء الادب .
وانني لأرجو من الله ان يكن ذلك مقدمة لتطبيق نظام العقوبات الاسلامي بأكمله ليرى من يعارض ذلك كيف سيتحقق من خلاله الامن للناس جميعا .
ومن ثم فإنني ارجو من اصحاب القرار في الاردن أن يتابعوا ردة فعل الشارع الاردني من كافة شرائحه تجاه ما تم تطبيقه يوم أمس في سجن سواقة وبناء على ذلك فليحكموا على ما قاموا به .
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين .



*استاذ القضاء الشرعي المشارك
جامعة العلوم الاسلامية العالمية
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير