jo24_banner
jo24_banner

همسة في أذن البحر!

حلمي الأسمر
جو 24 : كتبت له ذات يوم، رسالة، ويبدو انها لم تصله بعد، وها أنذا أعيد كتابتها، وأنا في أعماق البادية، «أصطاد» سردينا معلبا، بدلا من السمك، بعد أن أيقنت أن رسالتي تاهت في السحاب، أو تمت مصادرتها في الطريق!

أكتب لك أيها البحر ، وأنت الصامت الأكبر ، رغم ما يصطرع في أعماقك من حراك وحياة وغضب ، كأنني أتماهى معك ، فأتوحد فيك ، أكتب لك ، مستحضرا تلك الرحابة اللامتناهية التي تتمدد فيها ، هربا من ضيق الصدر ، واختناق المدى ، بعد أن انزوت المشاعر الجياشة في حرف مثقل بالضغينة والكراهية ، تغمض عينيك عنه هنا ، كي تراه يطل عليك من هناك ، وأنت تقيم في مكان أو اللامكان ، ليس هنا وليس هناك بالتأكيد.
أكتب إليك يا صديقي ، مستذكرا المرة الأولى التي رأيتك فيها ، تضرب بموجك الضجر شواطىء «سيدنا علي» قرب يافا تنتظر الفاتحين الأشاوس ، انتظار غودو للاشيء.

اكتب لك ، وانا أكاد أشعر بالاختناق ، مُنكتبا وليس كاتبا ، بل مصلوبا على أعتاب الكلمات الخرساء التي تموت على الشفاه ، كي لا أتهم بما ليس فيّ ، «مدعيا» حبا لم يعد مطلوبا الاعتراف به أعني الحب طبعا ، بل ربما غدت مداراة هذا الحب ضربا من الوطنية والانتماء ، وربما أصبح من الشهامة أن تتنكر له ، وتخلعه من تلافيف مخك وجدران قلبك ، كي تصبح بشرا سويا..

يا بحر، لمن أشكو إن لم أبثك همي وغمي؟ وأنت حافظ الأسرار وكاتمها ، في زمن لا يحتمل البوح؟

يا بحر، أستميحك عذرا ، فالحب ليس خيارا ، بل قدرا يهبط علينا ، فيسكن تلافيفنا ، لأننا رضعنا منذ أكلنا أول حبة فلافل أن بلاد العرب أوطاني ، وأن الاتكاء على ـ والانتماء إلى مليار ونصف المليار مسلم ، كأهل وعشيرة ، هو خيارنا الوحيد.

يا بحر ، ندرك أن الأمة ، كما الأفراد ، يمكن أن تعيش أرذل العمر ، ولكنها على خلاف الأفراد ، تنهض فجأة ، ونستفيق ، كي تنفض خبثها الذاتي ، وتستعيد ألقها ، لأنها تحمل في أحشائها كلمات الله عز وجل التي تظل تبرق في آفاقها: كنتم خير أمة ، وتردفها كلمات سيد الخلق ، وخاتم المرسلين: الخير في وفي أمتي..،

يا بحر ، كم نحبك ، بكل ما فيك من هدوء وصخب ، كما أحبابنا ، الذين لا نخلعهم ولا يخلعوننا، مهما أصابنا أو أصابهم من نزق ، لأن ثمة دما واحدا يجري في عروقنا ، ويحمل الأوجاع والأحزان والأفراح ذاتها!
يا بحر..

سأهمس في أذنك بسر، أو سؤال، وأرجو أن لا تبوح به، حتى للنوارس التي تملأ شطآنك، ولا للأسماك التي تعمر فضاءك الفسيح، ولا لـكوابل الاتصالات التي تتمدد في أعماقك، سأقول لك، متسائلا: متى تبوح لنا بأسرار موسى بن نصير وطارق بن زياد ، وبماذا همسا في أذنيك؟ وماذا حملت تلك الموجة التي حظيت بالمرور تحت قدمي الاسكندر المقدوني، ذات قرن بعيد؟

متى يا بحر، تنتقل لك عدوى «بحر غزة» وغضبه، فتتمرد على كسلك ورخاوتك؟
تابعو الأردن 24 على google news