كلنا .. بين المطرقة و السندان ...
تأتيك فجأة في إحدى المحطات .. رغم اعتيادك المتكرر على سماع صوت المنادي في محطة القطار ليعلن بدء الرحلة للمحطة التالية من شكل ابتسامتك و نبرة صوتك.. و قد يحدث ذلك و أنت تحتسي قهوتك في إحدى الطائرات.. و الصوت ذاته يعلن عن اقتراب الهبوط في أرض النضج و لون جديد في رأسك ..و قد يباغتك هذا الشعور قبل إدراك قطارك و قبل صعود طائرتك و أنت تستقبل نهاراً عادياً روتينياً تُمارس فيه ذاتَك .. لتجد نفسك ..ترى تفاصيلاً وتسمع أصواتاً لم ترها من قبل و لم تسمعها من قبل ..
فجأةً لا يعجبك موقع طاولة الهاتف في بيتك ..ويثيرك لأول مرة صوت الباعة المتجولين في شارعك .. و تزعجك أزمة السير اليومية في الطريق إلى عملك .. و تنتبه إلى رداءة البن الذي يحضره العامل كل صباح إلى مكتبك .. وتكتشف كمّ الفوضى و الأوراق المتكدسة و ضغط العمل لديك .. و فجأة تغُصكَ ابتسامة شخص تدرك منذ زمن عدم صدقها ..و نظرة آخر تشي بتلوث صاحبها ..فجأة ترى و تسمع كل شيء لأول مرة في حياتك..و كأنك عدت للتو من غيبوبة فكرية .. فلا تعود السماء زرقاء و لا الشمس لها ثوب البهاء و لا يعود المطر حكراً على الشتاء و إذا به يهطل خارج الفصول و داخلك أنت .. خارج جدوله الزمني و في مكان ما تحت ردائك أنت .. ماذا حدث ؟! كل ما فيك يسألك !؟
ما من شيء تغير ؟كل الأشياء في مكانها .. و لكنه ذلك الصوت الداخلي الذي لابد زائرنا يوما كلنا .. عندما يثقل بنا و يضيق بحمولته منا .. فيقسو بالحقيقة في مسامعنا.. و بدورنا نطلق رصاصة نقمته على كل ما يحيط بنا .. فنود يومها لو نسمع دبيب النملة على الأرض و نفَقه لغة الشجر و نحدث الطير في سمائنا .. و نريد بشدة لو تتجاوز مداركنا نفسها فكل التفاصيل لا تكفينا .. سمِعنا ..ورُغماً سمعنا و عبثاً حاولنا المضي و لكن وقفنا .. هو ذلك النداء الذي يوقظه فجأة انعكاس صورتنا .. في عيون عجوز مكناه من عبور الشارع أو في انكسار محتاج في الطريق يطرق نافذة غرورنا ..ذلك الصوت الذي يولد صامتاً.. و نحن منشغلون بتفصيل اجتماعياتٍ يجب أن تكون على مقاسنا..و ترتيب جداول لمواعيد لا تشبهُنا .. و تدوين أسماءٍ و أرقامٍ لا تبهجنا ..و تشديقُ ابتساماتٍ لا تنتمي لوجوهنا ..و استقبال دعواتٍ مٍخمليةٍ من الذهب الخالص تٍفسدنا..نعيش يومنا بشخص آخر غيرَنا ..و في وسط انغماسنا.. والامتثال لحكم من نصبناهُ قاضينا .. يأتي الصوت يستوقفُنا .. لنلتفت لحظةً وراءنا..
و نتساءل ؟! أين كان ينبغي أن نكون ؟ و من أضاع في النفس السكون ؟! و هل كان الثمن جديراً بهذا المُجون ؟! فكم صديقاً حذَفْنا من ذاكرة العيون ؟! و كم طيّباً غادر مجالسنا منكسرا ً محزون ؟! و كم قريباً أنكَرنا لأنه لا يعرف في نادينا لُغةْ الميمِ و النون !؟ و كم زميلاً عادينا بسيف منصبٍ مغبون ؟! و كم فقيراً رددنا لأنا مسرعون ؟! و كم جاراً تجاهلنا لأن على الهاتفِ مُهمون !؟ و كم حبيباً قَتَلْنا لأن الحب خروجٌ عن القانون ؟! كم حماقةً ارتَكَبنا و كم خسارةً تجَرّعنا و كم مبدءاً نَسِينا و كم صالحاً بالطالح ظلَمنا.. كم قطعةً من أرواحِنا فقَدنا.. حتى لم نعد أنفُسَنا .. علّنا نتعثر بالسعادة في الطريق .. و كأنها في حوزةِ من تحصّنا بهم ..
و قد فاتك أن لا سعادَةَ تَقتاتُ بضدها ..!!و هذا المجتمع الذي حاولتَ إرضاءَهُ و لم يُرضِك و القاضي الذي حكّمتَهُ فجردك من نفسِك ً.. هل سيُعطيكَ الآن مرهَماً للإِصاباتِ خلّفها روحَك أو ترياقاً للسموم أسكنَها دمك .. و هل سيَعترف بصفائح القسوةِ غلَّفَها خافِقَك .. و هل سيعيد لك وجوهاً وضاءة أطفأَها دربَك فغدت شمسَ ذاكرتك !!؟ .. أم ستعلمُ حين العِلمُ لا يُجدي الفتى .. أن التي ضيعتها كانت معك ..
فتُدرِك مُتأْخراً و أخيراً أنه مُجتمعٌ مُصابٌ مثلُك و مصابٌ بك و لن يُصلِحَكَ و قد أفسَدْتَه .. و لن يَصلُحَ بغيرك ..و أننا جميعاً محكومون بحربٍ ضَروس بين مِطرقْةِ القلبِ و علاقاتنا وفطرتنا و بَراءتِنا و بساطتِنا وما نُحب و من نُحب و بين سِندانِ العقل و مُجتَمَعِنا وقِشرِيَتنا و أَقنِعَتنا و شكلنا الخارجي و قوانيننا الوضعية و ما يجب أن نُحب و من يَجب أن نحب .
وهل ستكون ممن يسمعون الصوت و يدركون كُنهَه و قد حباهم الله بالعمق الكافي لسبر غَورِه و الوقوف احتراماً في حضرته فتُقَرر ما سيكون عليه شكلُ محطتك التالية و من ستجالس فيها .. وعلى من ستلقي التحية و على من تردها بأحسن منها .. و من ستودُّ و من ستحتَرم و من ستُصادِق ومن ستُحب لا لسبب إلا أنه أهلٌ لذلك ..و بماذا سيَذكرك الذاكرون ... عندما لا تكون !! ..أم ستختار أن تكون ممن يصُمّون آذانهم و يُغالون في جَهلهم ، فيُسقِطون هزائِمَهم على الآخرين ..على الأشياء و الأعباء و القضاء مُجتَمعين ..على كلُ ما يصادِفهم إلا أنفسَهم ليَمضوا عن الوعي غائبين .. يعيدون سكرَتهم و يُكررون حماقاتِهم على دين أشباههم و أقرانهم الأولين ..و قد اختلط عليهم في كل ضِحكةٍ ..بيضاءُ الصادقين بصفراءِ المنافقين ..!!
وهل ستتعادل كفتا ميزانكَ !! وفي أي كفة للميزان قررتَ أن تسكن ؟ و هل قررت أن تخِفَّ بك كفّتُك أم تثقل؟ ..و هل يُفتح للحق بابٌ على أعتابك أم يُقفل ؟
و هل كان علينا أن نموت كي نتمنى لو عدنا للحياة مرةً واحدة لنسجد سجدةً واحدة !!؟؟
قد لا تستطيع و إن بلغت ما بلغت من القوة و السلطة أن تمتلك شيئاً فقدتَه و لكنك تستطيع أن تمتلكَ نفسَك .. و طوبى لمن فاز بها ..فكما كتبت ابنةُ الثورة الجزائرية :" الأجدر أن يُعرّف الإنسان بما فقد وليس بما يملك. فنحن دائما نتيجة ما فقدناه. ولكن لا أحد يسألك عن الذي فقدته؛ هم يسألونك فقط عما تملك.
نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه. محملين بالمباديء.. مثقلين بالأحلام.. محوّطين بالأهل ولأصدقاء. ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا شيئًا ، وتركنا خلفنا أحدًا، ليبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم. والذي أصبح كذلك، لأنه تسلق سلم الأهميات، بعدما فقدنا ماكان أهم منه! "