من يعرف الجواب؟!
الرسالة الموجّهة من "مبادرة من أجل مواطنة متساوية"، التي كشفت الزميلة القدس العربي عن فحواها، تحمل دلالات وإشارات مقلقة للغاية عن حالة "الجبهة الداخلية" اليوم.
تضمّنت الرسالة "مظالم" معروفة، نتحدث بها في الإعلام بصورة مستمرة، وبعضها بحاجة إلى نقاش أعمق. لكن اعتراضنا واختلافنا بصورة رئيسة مع طبيعة الخطاب أو اللغة المستخدمة، التي تعاطت مع مشروع الإصلاح السياسي المنشود بمنطق "المحاصصة"، وبروح فئوية وجهوية، وهذا نقيض لقيم المواطنة نفسها!
المنزلق الذي يهوي إليه هذا الخطاب أنّه يعيد تعريف النخب السياسية، وفقاً لخلفياتها الاجتماعية، ونصبح وكأنّنا أمام مجتمعات وليس مجتمعاً واحداً، وتتوارى اللغة السياسية لتحل محلها لغة فئوية، فإذا كان المشروع الوطني قوياً، والشعور بأنّ الدولة هي للجميع، لا تحابي فئة على أخرى، ولا تتلون في علاقتها مع المواطنين، وفق أسس هلامية، عند ذلك لن نجد مثقفا أو سياسيا يتحدث باسم الشرق أردنيين أو الأصول الفلسطينية أو البدوية أو الشركسية..الخ!
المفارقة الرئيسة أنّ هذه الرسالة تأتي بعد أيام من جهود رسمية غير معلنة، قامت بها الحكومة، وساهم فيها سياسيون، لحثّ "الأردنيين من أصل فلسطيني" على المشاركة في الانتخابات، تخلّلتها لقاءات مع مخاتير من المخيمات، بعد رفع القائمة الوطنية إلى 27 مقعداً، لكي تحسّن من تمثيلهم في مجلس النواب القادم.
إذاً، الرسالة تشكل الوجه الآخر لخطاب الدولة في هذا المجال! فبدلاً من أن يعتمد خطاب الدولة على أسس حديثة ومعاصرة، يعود بالناس إلى المخاتير والوجهاء وشيوخ العشائر، ويتعامل مع المكونات الاجتماعية بوصفها قوى سياسية. فمثل هذا الخطاب سيأتي بتلك النتيجة، ما سيعزّز الأزمة الاجتماعية- السياسية ويدخلنا في نفق مظلم، تتآكل فيه قيمة الدولة لصالح الجماعات والمجموعات الإثنية والدينية والطائفية!
الحصيلة أنّنا بدلاً من توحيد المجتمع على المفاهيم الوطنية الجامعة، ننمّي الهويات الفرعية، ونفكّكه ونجعل منه جماعات متصارعة متحاربة، سمة العلاقة بينها التوتر والشكّ والهواجس المتبادلة، وهذا بحد ذاته من أهم محرّكات العنف الاجتماعي والجامعي.
ذلك الاضطراب والارتباك انعكس حتى على "رجال الدولة"، فثمّة فقر شديد في النخبة الرسمية الحالية، لا تكاد تجد شخصية سياسية محنّكة تستطيع أن تخاطب الرأي العام وتحمل مشروع الدولة، أو تقدّمه إلى الناس، وتدافع عنه بلسان عربي مبين.
بل امتد تأثير ذلك إلى النخب التي تمكّنت الدولة من إدماجها في مشروعها في العقود الماضية. شعرت بالوحدة والغربة، فعادت إلى خطابات يمينية هنا أو هناك! ففي عقدي السبعينيات والثمانينيات إلى منتصف التسعينيات نجحت الدولة في تحديد معالم أساسية في علاقتها بالمجتمع والأفراد، وتمكّنت من إعادة احتواء وتوظيف دائرة واسعة من النخب المثقفة والسياسية، ومن أصول فلسطينية وبدوية ومن المحافظات، وأصبحت هذه النخب تمثّل الدولة وتحمل خطابها وتدافع عن مشروعها، وكان الجميع يعرف أين تقف الدولة وما هو خطابها!
اليوم تبدو الدولة بلا مبادرة جامعة تملأ الفراغ، بدلاً من ذلك ترتدي في الصباح "ثوباً عشائرياً"، وتحاول في المساء "مغازلة" الشرائح الأخرى، وتضع مشروعها الوطني في مهب الريح، إذ لم نعد نعرف فيما إذا كنا نريد دولة عشائر أم دولة محاصصة أم دولة مواطنة ومؤسسات، لأنّنا نتحدث بكل اللغات المتضاربة. وإذا كان أحد من داخل الدولة يعرف الجواب سنكون له من الشاكرين.
(الغد)