التكامل العربي طموح واقع وممكن تحقيقه
في الأول من شباط 1958 خطا النظام العربي خطوة تاريخية باتجاه تحقيق غاياته القومية، وذلك بإعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية بكل ما لهما من ثقل في هذا النظام. وفي الثاني والعشرين من الشهر نفسه أصبح الحلم حقيقة واقعة بموافقة الأغلبية الساحقة من الشعبين المصري والسوري على تلك الخطوة. وعلى اختيار جمال عبد الناصر رئيسا لدولة الوحدة.
تأتي ذكرى الوحدة المصرية – السورية السابعة والخمسين والوطن العربي يعيش مخاض تغيير جذري على محاور الديمقراطية، والتنمية الشاملة، والعدالة الاجتماعية، واجتثاث الفساد، وقوى التطرف والإرهاب.
لم تكن الوحدة عفوية وغير مدروسة؛ إذ جاءت تتويجا للتفاعلات التي تواصلت بين سورية ومصر منذ التقى صنّاع قرارهما على رفض حلف بغداد في ربيع 1955.
وفي عام 1957 سارع عبد الناصر بإرسال قوات عسكرية مصرية إلى سورية كي تشارك في ردع عدوان تركي محتمل عليها، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ بدأت الدول العربية مسيرتها نحو التحرر من الاستعمار الأوروبي.
وما إن رفعت في دمشق الدعوة إلى اتحاد سورية ومصر لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي كانت تواجهها سورية، حتى جوبهت الدعوة بمعارضة القوى المعادية للوحدة : السورية والإقليمية والدولية. غير أن تلك المحاولات شكّلت حافزا لتعظيم حراك الشارع السوري الضاغط لانجاز الوحدة، مما يعني أن الإرادة السياسية لصنّاع القرار في القطرين المدعومة شعبيا، هي التي أقامت الوحدة.
فقد أوفد 'مجلس العقداء' صاحب الكلمة في الجيش السوري ليلة 11 كانون الثاني 1958 عددا من أعضائه برئاسة عفيف البزري رئيس الأركان إلى القاهرة يحمل مذكرة تطالب بدولة ذات رئيس واحد، ودستور واحد، وعلم واحد، وجيش واحد، وعاصمة واحدة. ودارت بينهم وبين عبد الناصر وبعض أركان نظامه مفاوضات على مدى يومين، انتهت بإعداد بيان بإقامة جمهورية رئاسية للرئيس فيها صلاحيات غير محدودة، وقعه عبد الناصر، ووزير الخارجية السورية صلاح البيطار. وبعد أن تدارسه مجلس الوزراء السوري في جلسة حضرها رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس مجلس النواب أكرم الحوراني، ورئيس أركان الجيش وقادة وحداته، أقر الجميع البيان بدون أدنى تحفظ.
وكان الرئيس عبد الناصر قد أوفد اللواء حافظ اسماعيل إلى دمشق في كانون الأول 1957، حيث اجتمع بالمجلس العسكري، وأوضح لأعضائه انه جرى في مصر استبعاد 'الضباط الأحرار' من الجيش وإحالتهم إلى وظائف مدنية، وان عبد الناصر لا يقر النشاط السياسي في الجيش، حرصا على وحدته والتزامه بواجبه المهني.
ونبههم إلى أنهم في حال الوحدة قد يحالون إلى وظائف مدنية، وانه سوف يجري تعديل للواقع الاقتصادي والاجتماعي السوري بما يحقق العدالة الاجتماعية، فأكد الجميع استعدادهم لتقبل ذلك.
شهد الإقليم السوري خلال سنوات الوحدة منجزات كبيرة في قطاعات الخدمات البلدية والقروية، وتطور في القوانين الاقتصادية والعمالية والرعاية الاجتماعية. كما لم تخل الممارسة من تجاوزات خاصة في مجال الحريات. غير ان الموازنة الموضوعية ترجح الانجازات. ولا أدل على ذلك من تواصل المظاهرات في سورية طوال العامين التاليين للانفصال مطالبة بإعادة الوحدة، وتثبيت قرارات الإصلاح الاقتصادي، وتأميم البنوك وبعض الشركات، والتأمينات الاجتماعية.
إن الوحدة التي قامت على أساس الخيار الديمقراطي، فصلت بانقلاب عسكري مدفوع الأجر من الخارج. وكان الانقلاب الوحيد في سورية الذي تتصدى فيه الجماهير للانقلابيين، مطالبة بالإبقاء على الوحدة، وهاتفة بحياة عبد الناصر. ومع ذلك فقد أعلن عبد الناصر قبوله الوضع الراهن الجديد في سورية على أساس انه ليس المهم أن تبقى سورية جزءا من الجمهورية العربية المتحدة، لكن المهم أن تبقى سورية، في إشارة إلى الصراع الداخلي الحاد الذي كان يمكن أن ينجم عن استمرار محاولات الدفاع عن بقاء الوحدة.
إن قيام الوحدة بين مصر وسورية في 22 شباط 1958، والمواقف الشعبية العربية العامة والسورية منها خاصة، تجاه الردة الانفصالية، يؤشر إلى أن الطموح للتكامل العربي طموح واقعي وممكن تحقيقه، إذا توافرت لدى القوى الاجتماعية المؤثرة في صناعة القرار القطري واستقلالية الإرادة، والإدراك الواعي بضرورة التكامل لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
لقد أثبتت تجارب الدول القطرية أن لا امن قوميا يتحقق، ولا تنمية اقتصادية تقوم، ولا ديمقراطية حقيقية تسود، ولا عدالة اجتماعية تترسخ، من دون كيان عربي اكبر حاضن للكيانات الوطنية القائمة، ومحترم لكل خصوصياتها.
إن الوحدة العربية وبعد كل التجارب التي مرت بها – لاسيما تجربة الوحدة المصرية السورية- لم تعد دعوة إلى صيغة اندماجية يهيمن فيها القطر الأكبر على القطر الأصغر، بل باتت مشروعا لاتحاد يبدأ كونفدراليا ويتحول فدراليا، بما يحترم واقع كل مكونات الاتحاد دولا أو جماعات، فيحقق المصالح الكبرى للأمة من دون أن يهمل احترام خصوصيات كل قطر أو مكون من مكونات الأمة.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر حجم الصراعات الأهلية الدموية المعلنة والكامنة في جسم الأمة، ولكن أحدا لا يمكنه أن يجر تيار الوحدة في الأمة إلى مواقع تعزز هذه الانقسامات والصراعات.
ومهما حاولت جهات أجنبية، من خلال أدواتها، الانقضاض على الحراك الشعبي العربي واختراقه وتحويل مساره، والضغط على بعض قواه، وإغراقه بالفوضى والفتنة والعصبيات المدمرة، فإنهم لن يخمدوا المعاني الكبرى التي انطوى عليها هذا الحراك. إننا امة واحدة لم يستطع حتى أكثر المتنكرين لعروبتها إلا أن يتحدث اليوم عن 'ربيع عربي' في إسقاط ضمني لكل ما يحمله من أفكار وسياسات رافضة للاعتراف بأي حقيقة عربية.
فما أحوجنا إلى استعادة المثل التي قامت عليها الوحدة المصرية- السورية في مرحلة مجيدة من مراحل نضالنا القومي، والاستفادة من الدروس التي خلفتها لنا هذه الوحدة. وما أعظم مسؤوليات المثقف العربي الملتزم تجاه غرس القيم الوحدوية العربية في عقول الجيل الحالي من شبابنا، فالمستقبل لا يمكن أن يبنى إلا بسواعد أبناء هذا الجيل، واستنادا إلى سلامة رؤيته.