"سرّ" أردوغان
من الطبيعي أن نشتكي من نضوب القيادات السياسية، ونسمع من يصرخ "أين رجال الدولة؟"؛ لماذا لا نجدهم اليوم يقفون أمام التحديات، ويواجهون ما نتعرض له من انهيار السلطة الأخلاقية للدولة واحترام القانون والحرص على المصلحة العامة، وخلق الأمل والوعد لدى الناس بغد أفضل، بدلاً من تسليمهم فريسة سهلة للإحباط والاحتقان، واستيلاء "السوداوية" والقلق عليهم؟!
لا داعي للتباكي على "رجال الدولة" طالما أنّنا عطبنا "الماكينة" الأكثر فاعلية وأهمية ونجاعة في صناعة الزعماء والقادة السياسيين، وبناء قدراتهم الإدارية والاتصالية، وهي الديمقراطية والانتخابات الحرة والأحزاب السياسية. فما نحصده اليوم هو ما زرعناه عندما نسفنا المضمون الحقيقي للانتخابات البلدية والنيابية والجامعية، ووضعنا المشهد العام بأسره في عهدة المنظور الأمني!
هذه هي الأفكار -أو ربما بعبارة أدق الحسرة- التي رافقتني خلال الأسبوع الماضي وأنا أقرأ في كتاب "رجب طيب أردوغان: قصة زعيم" لحسين بسلي وعمر أوزباي، وهما يقدمان لنا "أسرار" الزعامة التي حازها أردوغان، من نشأته في حي قاسم باشا الفقير البائس في مدينة اسطنبول، مروراً بتجربته السياسية في الجامعة، كما تجربته الحزبية، إلى انتخابه في العام 1994 رئيساً لبلدية اسطنبول الكبرى، إلى الزج به في السجن في العام 1999 (على خلفية أبيات شعرية ألقاها)، فتأسيس حزب العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة (قبله الرفاه، وقبله السلامة الوطنية)، والانتصار الكاسح في الانتخابات النيابية في العام 2002، وصولاً إلى قمّة السلطة، والزعامة الكارزمية. الكتاب مليء بالتفاصيل المثيرة والمهمة التي تروي فضولنا في التعرّف على شخصية رجب طيب. وربما الجملة المفتاحية التي نخرج بها أنّه رجل عركته التجربة السياسية والحزبية، ودفعت به إلى الاشتباك مع الشارع والناس، واكتساب ثقتهم، وتجاوز التجارب الحزبية السابقة، بما فيها التجربة الإسلامية "الأربكانية" ذاتها التي فشلت في إحداث اختراقين؛ الأول كسر القالب الأيديولوجي والعبور إلى الخطاب الوطني الجامع، والثاني كسر الحلقة المفرغة في الصراع مع العسكر، والتي كانت تعود بالقيادات السياسية من ذروة القوة السياسية إلى الإعدام أو السجن، أو على أقل تقدير المنع من مزاولة النشاط السياسي.
ربما الفرضية التي سيطرت على تحليلاتنا -سابقاً- لـ"سر أردوغان" تتمثّل في البراغماتية المطلقة التي تمتع بها، مقابل مراوحة الزعيم التاريخي نجم الدين أربكان بين الأيديولوجيا والبراغماتية. وهذا جزء بسيط من حقيقة تميز أردوغان ونجاحه؛ فالكتاب يكشف جانباً آخر أكثر أهمية، يتمثّل في الحرص الدائم على كسر الحاجز مع الشارع، والاتصال به والتواصل معه، والالتزام الأخلاقي بقيم الخدمة العامة، وعدم الاستسلام للعقبات والصعوبات، ومواجهة التحديات بالنفس الطويل، واحترام رأي الناس وعدم الاستهتار بهم، والمصداقية، ووضع أهدف وطنية محددة (مثل التعليم، والصحة، والمواصلات، والبيئة، والاقتصاد..) والحرص على تنفيذها بصورة مثالية، والقدرة على التجديد وكسر القيود (في مسألة المرأة ودورها في المسار الديمقراطي والتجربة السياسية).. إلخ.
ليس غريباً أن نرى شعبية مثل هذه الشخصية، وقربه من قلوب الفقراء والضعفاء، طالما أنّه أكل الخبز اليابس نفسه، وعاش طفولته مثلهم، وعانى معهم، وتدرّج من العمل الطلابي إلى رئاسة بلدية اسطنبول، إلى السجن، ثم إلى رئاسة الوزراء، من دون أن يكترث بكل العراقيل التي وضعت في وجهه، إلى محاولات قتله في السجن نفسه.
ربما المشهد الأكثر تأثيراً هو تلك الحشود بعشرات الآلاف التي جاءت لتودّع أردوغان عشية دخوله السجن. عرفتم لماذا الحسرة عندما ننظر إلى رئيس وزراء بحجمه وشعبيته وخبرته؟
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)