"ايقاع الطبل"قصة لـ مفلح العدوان
(دائماً يرتدي القضاة عباءات سوداء.. لماذا؟!).
ردّد الهاجس عدّة مرات وهو ينتظر تبدّل اللون في الإشارة الضوئية.
-(أية سلطة يملكها اللون حتى بات طقساً يمسك زمام الحياة في كلّ الأمكنة؟! نفرح إذ نرى قوس قزح، ويقترن البياض بالكفن أو بالقماط، بينما الأخضر رداء الأتقياء، والأحمر نبيذ أو إشارة ضوئية!).
لقد طال الانتظار، ودم الإشارة لم يتغيّر..
فكّر وهو متحجّر داخل سيارته بانتظار أوامر اللون: (ثمّة سحر في اللون، وهناك تميمة وراء سرّه!).
شعر بوحدته بين سواد الإسفلت، وبرودة الحديد، فالتصق أكثر بالمقعد حين فاجأته ذكريات ذات المكان كاشفة استفهامها: (كيف أمكن لهم الثلاثة أن يعيشوا في غرفة واحدة؟! حين كان الشتاء يقطع عليهم، درب الخروج، بينما المدفأة توحّد جدوى بقائهم حولها.. كانوا: عرافاً، ورساماً، وكاتباً!!).
قال العراف: (لماذا يرتدي القضاة عباءات سوداء؟!)
خربش الرسام بالفحم على بياض ورقة وهو يجيب ضاحكاً:
-(حداداً على أرواح المتهمين!).
انتشى الكاتب معلناً بصوته، وبحركات إيمائية، طقوس المحاكمة بدءاً من افتتاحها، وانتهاءً بالحكم على المتهمين بارتداء البدلات الحمراء!
* * *
لون الإشارة، ما زال، قانٍ..
كنّا آنذاك ثلاثة..
وكنّا في ذات المكان، بانتظار حلول شجرة الإشارة، وإيناعها ورقاً أخضر، يتيح لنا التسلل ببركته نحو الآتي من الدرب..
كنا ثلاثة في السيارة، وعيوننا ترقب تغيرها، كأنّا نعاين معجزة ستأتي، أو رسولاً سينطق بالرسالة!
الصوت ارتفع، فانكسر كأس صمتنا..
تهشّم جلال مراقبة زجاج اللون!
متقطّع أتى ضجيج الصافرة، فالتفتنا باتجاهه.. رافقه لون إضاءة دوّار، وسرب سيارات تنبئ بموكب الرئيس..
مرّ بجوارنا، فابتسم لنا..
وابتسمنا، بعفويّة، له.
كانت نظرة واحدة فقط.. وتجاوزنا..
لم يتوقف مثلنا، بل اخترق سلطة لون الإشارة، وبقينا نرقب!
* * *
أمام المدفأة..
ألسنة اللهب تتصاعد، وحلاوة الدفء تتلاشى عند مواجهة حقيقة ناموس النار الأزلي بأن لا يمسسها أحد..
قال الرسام: (هل أستطيع اللعب بالنار؟!)
العرّاف، أعطاه ولاّعة..
أما الكاتب فقد ردّد استهجانه مما رأى: (لو انتظر قليلاً.. فقط حتى يرمش الزجاج لونه الثاني.. قليلاً.. هل كان ينقص من مقامه شيء؟!)
بهيبة الرائي، أجاب العراف: (دائماً صخب الصوت، وجعجعة الضجيج، تصادر سلطة اللون!).. ثم أشار للرسام أن يمارس غواية اللعب بالنار.
* * *
اشتعلت السيارة..
كنّا نراها، ولمّا تختفي، من حدقات أعيننا، ابتسامة الرئيس الأخيرة حين مرّ، كأنه يودعنا، وكانت السلطة في الاتجاه الآخر بلون التقوى.. أخضر، مقام الشارة؛ حقل أينع فجأة، مبدلاً جفاف تربة اللون ببركة حجابه..
أيّ صراع دائم هذا؟!
حتى بين الألوان!!
سلطة من الأقوى إذن؟!
كنّا ننتظر..
تلاشت فينا الثقة بالألوان، حين اخترق موكب الرئيس أسطورة السرّ في اللون الأحمر..
لحظات، وعلا نحيب ضجيج الارتطام، فوق زغاريد صافرة الموكب!!
بقينا ننتظر..
وأحسسنا بالابتسامة تتلاشى؛ تلك اللفتة الأخيرة التي أودعنا إياها قبل أن يصطدم بمبعوث اللون الأخضر!
* * *
تغيّر السواد..
بدّل الإسفلت جلده، فاقداً إرث عتمته، حين ساحت عليه ينابيع السائل الأحمر..
مرّة أخرى، صعقنا التبدّل الجنائزي!
صمتنا.. ودم الرئيس أوقف الجميع.
* * *
ضرب العراف الطبل عدّة مرات
انسلخ عن عالمنا.. باتجاه قبيلته الأولى، ناسياً أننا وإياه حول المدفأة يوحدنا الهرب من برودة الشتاء، ومن أيّ شخص رآنا حين ابتسم لنا الرئيس!
(أيّة كارثة تقع على رأس من يبتسم له الرئيس؟!
هذا يعني أن أحد الاثنين سينتهي.. ويعني، أيضاً، أنه إذا مات الرئيس في تلك اللحظة، سيبقى الآخر ملاحقاً ومتهماً حتى يأتي رئيس آخر، ماسحاً بحضوره كلّ ابتسامات الرئيس الغائب!).
كان فرحاً وهو يضرب على الطبل بجنون..
حين صمت، قال: (الأقدار تقود الذي يريد.. أمّا الذي لا يريد، فإنها تجرّه!)
احتجّ الرسام: (بالصدفة كنّا هناك.. والابتسامة، كان من الممكن أن تكون لأي شخص، غيرنا!).
طمأنهم الكاتب: (إنهم يتصارعون، الآن، على من يخلف الرئيس).
* * *
ضجّ كل من في قاعة المحكمة..
كان جمع غفيراً هناك.. والمئات، كانوا خلف القضبان..
أحدهم قال: لست من ارتطم به.
أكّد آخر: كنت بالصدفة هناك.
ثالث أضاف: لقد مات الطرفان، الرئيس والآخرون، فلماذا تحاكمون الشهود؟!
القضاة، كانوا يلبسون بدلاتهم السوداء..
اللون الأحمر، مرّة ثانية.. كان على الشهود أن يلبسوا بدلات بلون دم الرئيس تكفيراً عن رؤيتهم لحظة غيابه!
* * *
تابع العرّاف: (هل المهم معرفة الحياة؟!
أم الأهم منها أن نبقى أحياء؟!).
بقي الثلاثة حول المدفأة.. وكانوا قد تسلّلوا هرباً، من مكان الحادث، قبل أن تجمع الشرطة الشهود، واختبأوا هنا بانتظار الرئيس الجديد..
-(هذا بلد يُجبّ الرئيس الجديد، فيها، كل خطايا القديم، حتى موته..)
قال الكاتب ذلك وحرّك إبرة المذياع رغبة في أيّ خبر..
الموسيقى فتنة أخرى..
قاطع الموسيقى، الرسام، قائلاً: (الفرح.. نعم، إن ما نحتاجه، هو الفرح بأننا أحياء!)
صمتَ..
صمتنا..
وصمتت الموسيقى، حين ارتفع صوت المذيع معلناً تعيين الرئيس الجديد..
فرحنا، كأن المذياع بعثنا مرّة أخرى..
وتابع العراف ضربه على الطبل..
* * *
شعرت بالغبطة حين تغيّر اللون..
الأخضر، دالية تسرّ الناظرين!!
تابعت المسير.. واستمر إيقاع الطبل في ذاكرتي!!.
* * *