تـنظيمـات إسـلاميـة عـابـرة للحـدود
حمادة فراعنة
جو 24 : كتابي السابع عشر هذا « التنظيمات الإسلامية الخمسة العابرة للحدود « يصدر في سياق تفاقم حالة الصراع في العالم العربي واحتدامه بشكل عبثي ودموي، بعد انفجار ثورة الربيع العربي التي توسلت البحث عن : 1- التحرر والاستقلال، وامتلاك زمام المبادرة وحرية اتخاذ القرار، 2- الطمأنينة ولقمة العيش الكريم متضمنة ثلاثة مطالب أساس يفتقدها المواطن العربي هي الراتب المناسب، التأمين الصحي، والضمان الاجتماعي عند التقاعد والوصول إلى الشيخوخة، و3- الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة والاحتكام إلى نتائج صناديق الاقتراع، ولذلك جاءت كتبي في سلسلة قضايا ثلاث رئيسة متداخلة، سلسلة الكتب الأردنية تحت عنوان : معاً من أجل أردن وطني ديمقراطي، وسلسلة الكتب الفلسطينية تحت عنوان : معاً من أجل فلسطين والقدس، وسلسلة الكتب العربية تحت عنوان : من أجل عالم عربي تعددي ديمقراطي موحد .
وكتابي السابع عشر هذا مرتبط بكتابين، سبق نشرهما، وهما: 1- حزب الإخوان المسلمين في الميزان، و2- الدور السياسي لحركة الإخوان المسلمين، في إطار تنظيمات وأحزاب التيار الإسلامي، تأكيداً لدورهم ومكانتهم وقيادتهم للحركة السياسية في العالم العربي، في غياب أحزاب التيار اليساري، وأحزاب التيار القومي، وأحزاب التيار الليبرالي، التي تضررت بفعل الحرب الباردة ونتائجها .
كما جاء كتابي هذا على خلفية كتابي الذي صدر العام 2013 عن ثورة الربيع العربي أدواتها وأهدافها، وحصيلتها أن الثورة ما كانت لتكون لولا توافر العامل الموضوعي المحفز للاحتجاجات والدافع لها والمتمثل بغياب الاستقلال السياسي والاقتصادي عن بعض البلدان العربية، وهيمنة اللون الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة، والطائفة، والشخص الفرد المتحكم بمفرده في إدارة الدولة، في أكثر من بلد عربي، وأخيراً بسبب غياب العدالة والطمأنينة وعدم توافر الخدمات الأساس من صحة وتعليم وضمانات اجتماعية للمحتاجين .
أما العامل الذاتي في ثورة الربيع العربي، فقد اقتصر على مؤسسات المجتمع المدني بما تحمل من مفاهيم عصرية عن الديمقراطية والتعددية واحترام مشاركة المرأة في مؤسسات صنع القرار، وبما تملك هذه المؤسسات ( مؤسسات المجتمع المدني ) من علاقات مع مؤسسات أوروبية وأميركية توفر لها الحصانة والدعم المطلوبين، ولكن بسبب غياب دور الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية، فقد استثمرت أحزاب التيار الإسلامي حصيلة الربيع العربي ونتائجه كي تكون هي صاحبة القرار، سواء عبر تفاهمها مع الأميركيين، أو عبر حصولها على الأغلبية البرلمانية كما حصل في فلسطين والعراق ومصر وتونس والمغرب، أو لامتلاكها الخبرات القتالية على أثر دورها في أفغانستان، ورغبتها في التغيير الثوري الجوهري، فاحتكمت إلى وسائل العنف واستعمال السلاح لمواجهة الاحتلال الأميركي للعراق، او لإسقاط النظم القائمة في ليبيا وسوريا واليمن، وحصيلة ذلك إخفاق ثورة الربيع العربي للآن، رغم توافر العامل الموضوعي ونضوجه لقيام الثورة، تغييراً للواقع، نحو الأفضل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن الإخفاق الفاقع يعود لعدم نضوج العامل الذاتي، وكثرة نواقصه، وعدم اكتماله، بصفته أداة الثورة ومحركها، وطالما أن العامل الذاتي كان ناقصاً، ولم تكتمل حلقات نضوجه، فقد انعكس ذلك على ضعف أدائه وعلى نتيجة أفعاله، فغياب أحزاب التيارات الثلاثة اليسارية والقومية والليبرالية وضعفها، جعل الوضع متروكاً لقوة ونفوذ أحزاب التيار الإسلامي، التي لا تؤمن لا بالتعددية ولا بالديمقراطية، ولا تملك البرامج الاقتصادية والاجتماعية الكافية، لجعلها أداة في يد عامة الناس، وهدفاً لها كي تلتحم مع الثورة وتلتف حولها، فانطبق على المواطن العربي المثل القائل أنه مثل الشخص الذي هرب من الدلف فوقع تحت المزراب، وغدت الأنظمة السابقة بعجرها وبجرها، هي أفضل حالاً مما وقع لاحقاً، من هيمنة ونفوذ وتأثير الأحزاب الإسلامية، وقيادتها للعمل السياسي وللتغيير الثوري، مسنودة بعواصم إقليمية، فحاضنة الإخوان المسلمين تركيا وقطر، وحاضنة ولاية الفقيه الدولة الإيرانية؛ ما خلق حالة من الصراع الإقليمي والدولي المباشر في منطقتنا، وعلى أرضنا، وعلى حساب دماء شعبنا وثرواته .
إذن هذا الكتاب، ليس فلسفة معرفية، بل هو إضافة سياسية تراكمية، لوضع ثورة الربيع العربي في سياقها من أجل إنتصار الديمقراطية في العالم العربي، وتحقيق الطمأنينة بلقمة العيش الكريم بالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وتحرير فلسطين .
هذا الكتاب يسلط الضوء على التنظيمات الإسلامية الخمسة العابرة للحدود، أي أنه يستهدف القوى الإسلامية الأساس القيّا تأثيراً ومكانة في العالم العربي، ولا يستهدف تنظيمات إسلامية محلية في هذا البلد العربي أو ذاك، بصرف النظر عن قوتها أو ضعفها، بل هو يستهدف التنظيمات الإسلامية الخمسة العابرة للحدود، والتي تعمل في السياسة، ولها تأثير على صنع القرار، أو على صنع الأحداث الجارية :
1- حركة الإخوان المسلمين . 2- ولاية الفقيه الإيرانية . 3- تنظيم القاعدة . 4- تنظيم الدولة الإسلامية داعش . 5- حزب التحرير الإسلامي.
لذا أرجو أن يقدم شيئاً جديداً، للقارئ، وللمكتبة العربية، وأن ينال الاهتمام كما يستحق، وفق الجهد الذي بذل وتحقق.
حمادة فراعنة *
أرضـيـة صعـود الأحـزاب الإسـلامـيـة وخـلفيتـهــا
لعل أول ظهور منظم لأول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية، كان في الربع الأول من القرن الماضي، بقيام الحركة التي صارت تعرف باسم « جماعة الإخوان المسلمين «، إذ كانت البداية في مصر، وهي قلب العالم العربي الإسلامي، ثم بعد ذلك في العديد من الدول المجاورة، إلى أن بلغ عدد فروعها نحو ثمانين فرعاً منتشرا في مختلف قارات العالم .
وقد رافق ذلك، ثم تلاه، نشوء جماعات أو منظمات وجمعيات اتخذت من الدين الإسلامي مصدراً لوجودها وتسويغ انتشارها، في البلدان العربية، ولدى عدد من الدول الإسلامية مثل: الهند، وباكستان، وترافق ذلك مع انتشار التوجهات القومية واليسارية الناشئة .
غير أن جماعة الإخوان المسلمين، التي تحولت في وقت لاحق، إلى حركة دولية لها مرجعية فكرية تنظيمية مركزية، كانت هي أكثر حركات الإسلام نجاحاً وانتشاراً عابراً للحدود، على نحو أكثر بكثير من الجماعات الإسلامية في باكستان، والوهابية في السعودية، والإمامية اليزيدية في اليمن، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وفي غير ذلك من البلدان الأخرى .
وكانت أكبر قوة دفع تلقتها حركة الإخوان المسلمين جاءت بعد الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، حين هزمت الجيوش ذات التكوين القومي الحديث، وتجلت نكبة فلسطين العام 1948 كتحد مصيري لم يتمكن معه النظام الرسمي العربي الوليد حديثاً ( جامعة الدول العربية العام 1945 ) من مواجهته بصورة فعالة؛ ما منح هذه الحركة، التي أسهم بعض أعضائها في تلك الحرب، ريح إسناد ملأت بها أشرعتها الضئيلة آنذاك .
في غضون تلك الفترة، وعلى خلفية نكبة العام 1948، نشأ حزب التحرير الإسلامي بنواته الفلسطينية، إلا أنه لم يتمكن من تعزيز حضوره، لا بين الفلسطينيين ولا بين أبناء الشعوب العربية المحيطة، إذ ظل يحافظ على وجود تنظيمي متواضع، وحضور سياسي باهت، عجز عن تحقيق قدر من النجاح الذي كانت تواصل حركة الإخوان المسلمين تحقيقه، بل وراكمته مع مرور الوقت .
وبالقدر الذي كانت فيه حركة الإخوان تعبر عن عالم السنة والجماعة في العالم الإسلامي، كانت ولاية الفقيه، ومركزها مدينة قم الإيرانية، تعبيراً موازياً عن عالم الشيعية الاثني عشرية، حيث كانت لتلك الولاية بنية مرجعية معترف بها رسمياً من قبل الدولة الإيرانية الصفوية، تعتني بالفقه، وتجمع الخُمس، وتبني المقامات والمزارات، إلا أنها لم تشتغل بالسياسة .
ظل الأمر على هذا النحو، الذي تفردت به حركة الإخوان المسلمين وحدها على ساحة العمل السياسي في العالم الإسلامي، دون أدنى منازع لها يعتد به، إلى أن حدثت الثورة الإيرانية العام 1978، بقيادة الإمام أية الله الخميني، ودلفت الحركة الشيعية إلى ميدان العمل السياسي، محمولة على رافعة إيرانية رسمية هائلة النفوذ والقوة؛ ما حوّل حزب ولاية الفقيه كما يصفها حسن نصر الله وسماها ( حزب ولاية الفقيه )، تحولت إلى مرجعية مناددة للمرجعية الإخوانية، ومنافسة لها في بعض الساحات العربية والإسلامية .
ومن المفارقات التاريخية الفارقة، أنه عندما بدأ يصعد نجم الحركة السياسية الشيعية، التي سنرمز لها تالياً باسم « ولاية الفقيه «، كان نجم جماعة الإخوان، التي كانت تلقت ضربة ساحقة، أواسط الستينيات، في عهد جمال عبد الناصر، قد أخذ يسترد بعض لمعانه، عندما استخدم الرئيس المصري، أنور السادات، هذه الجماعة المحظورة، في معركته ضد قوى اليسار والناصرية؛ ما مكّن الإخوان من بعث أنفسهم من جديد، في تزامن لافت مع صعود ولاية الفقيه .
أما المفارقة الكثرى إثارة، فهي التزامن الوثيق بين صعود ولاية الفقيه وعودة الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية، وظهور ما عرف لاحقاً باسم الجماعات الجهادية في أفغانستان، التي قامت بدعم أميركي خليجي سخي لمحاربة الاتحاد السوفيتي، الذي كان تورط في بلاد الأفغان حديثاً، ووجوه بحرب دموية قاسية، قادتها تلك الجماعات الجهادية بضراوة شديدة لسنوات عديدة لاحقة، كما أن العديد من أنظمة بلدان تلك الفترة، أعلنت تطبيق الشريعة، استجابة لصعود المد الإسلامي، كما حصل في باكستان؛ إذ أعلن ضياء الحق عن تطبيق الشريعة في 10 شباط 1979، ومن قبله جعفر نميري في السودان، وفي أعقاب سقوطه، التزمت ثورة الانقاذ التي قادها عمر البشير وحسن الترابي في تطبيق الشريعة، والرئيس المؤمن أنور السادات لم تخل توجهاته نحو هذا الخيار بعد أن أحضر قادة الإخوان من بلدان الخليج العربي وأشركهم في إدارة بعض مؤسسات الدولة، وهكذا غدا الحضور الإسلامي هو الطاغي على المشهد السياسي في تلك المرحلة .
من رحم الجماعات الأفغانية، الممولة والمسلحة جيداً، ظهرت حركة طالبان في المرحلة الأخيرة من الحرب ضد السوفيت، فخاضت صراعاً داخلياً مع الجماعات المنافسة، إلى أن استولت على أفغانستان، باستثناء إقليم في الشمال، وتسيدت المشهد السياسي كله، فحكمت وأسست أول دولة لها تحت ولاية الخليفة الملا عمر، ثم احتضنت ما كان يعرف بالمجاهدين العرب، الذين أنشأوا فيما بعد منظمة خاصة لهم، عرفت باسم « القاعدة « التي ستصبح بعد إذ أشهر منظمة إسلامية على الإطلاق، وخاصة على أثر قيام القاعدة بتوجيه أول ضربة للولايات المتحدة في عقر دارها ( 11 سبتمبر 2001 ) وظهور أخطر منظمة إرهابية في العصر الحديث، وجاء الغزو الأميركي للعراق 2003 وما رافقه من تخبط سياسي وعسكري أميركي شديد، ليعيد إحياء منظمة القاعدة من جديد بعد أن تعرضت لضربة قوية في أفغانستان، نظراً لما وجدته في بلاد الرافدين من تربة خصبة ملائمة لمقاومة الغزو والتصدي للاحتلال وتلقين أميركا درساً قوياً، كما حصل للسوفييت في أفغانستان .
بعد هذين التطورين المهمين المتتابعين في كل من أفغانستان والعراق، وانكفاء القاعدة عن آخر بقعة علنية كانت تحكم القبضة عليها العام 2008، تحولت هذه المنظمة التي جرت على نفسها تحالفاً دولياً كبيراً، إلى مجرد فكرة عقائدية، راحت تتبناها العديد من الفروع النابتة كالفطر، لا سيما في الجزيرة العربية واليمن، وشمال أفريقيا، وغيرها من الفروع الصغيرة المتناثرة في أوروبا وأسيا وغيرها .
في هذه الأثناء، كانت ولاية الفقيه تحقق حضوراً متزايداً، داخل إيران وخارجها، وتكسب مزيداً من الأرض في عدد من الدول العربية الهشة، وتلقى قبولاً شعبياً جارفاً حتى من الأوساط السنية، وتعقد ما يشبه التحالف مع حركة الإخوان المسلمين، وتقيم ما يعرف بإسم محور المقاومة والممانعة، على خلفية ظهور ما عرف أيضاً باسم محور الاعتدال العربي، فيما كانت القاعدة تواصل خروجها من المشهد الإقليمي، وتنزل تحت الأرض في انتظار اقتناص فرصة جديدة سانحة .
لقد بدا الربيع العربي في وهلته الأولى، بمثابة الحاضنة السياسية الملائمة أمام ظهور القاعدة من جديد، في ظروف انفلت فيها حبل الأمن، وضعفت فيها قوى السلطات المركزية، وارتخت قبضته على الأطراف، غير أن مطلع هذا الربيع الطويل، قبل أن يتحول إلى خريف إسلامي دام، كان مناسبة سانحة أمام الحركات الإسلامية، وفي طليعتها حركة الإخوان المسلمين، التي قطفت معظم زهور هذا الربيع، وتسيدت المشهد بعد أن تمكنت من الاستيلاء على ربيع مصر بعد استيلائها على قطاع غزة 2007، وصارت صاحبة نفوذ طاغٍ في الدول المحيطة بالدولة العربية المحورية، مصر، معتمدة في ذلك على كل من تركيا وقطر لمواصلة طريقها، وتوسيع حضورها .
ولكن لم تمض سوى فترة زمنية قصيرة حتى انقلب السحر على الساحر، عندما فشل الإخوان في إدارة مصر، وتبين للجميع مدى جوع الجماعة إلى السلطة، ورغبتها في الاستحواذ على كل المقاليد، وهو ما أدى في نهاية مطاف قصير إلى سقوط جماعة الإخوان عن عرش مصر، ومن ثم ضمور حضورها في سائر الدول المجاورة، لصالح جماعات إسلامية جديدة وقديمة، أخذت تمسك بزمام المرحلة، وتفرض نفسها كلاعب رئيس في بعض ساحات الربيع العربي، لا سيما في سوريا، وبعد ذلك في العراق وليبيا واليمن .
وهكذا، فقد كانت منظمة القاعدة، التي ظن الكثيرون أنها ذوت ودخلت في طور الاضمحلال التدريجي، أكبر الرابحين بين حركات الإسلام السياسي، باستثناء ولاية الفقيه، التي دخلت على حلبة المنافسة على النفوذ الإقليمي، وحققت مكاسب على الأرض، خصوصاً في سوريا والعراق؛ ما حالة كباش سياسي، تحول سريعاً إلى صراع مباشر، ألهب الجروح المذهبية الغائرة عميقاً في الوجدان الإسلامي العام، بما في ذلك من ثارات تاريخية نائمة بين السنة والشيعة في المشرق العربي، وغدا الصراع بين الحركات الإسلامية نفسها، كما هو بائن في اليمن بين ثلاث قوى سياسية رئيسة هي ولاية الفقيه وحركة الإخوان المسلمين والقاعدة إضافة إلى داعش .
وفي الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية الناشئة ومعها تنظيم القاعدة، المعبر عنه بجبهة النصرة، تعدّ نفسها وتبسط هيمنتها على حركة التمرد العسكري السورية، كان تنظيم داعش يطل برأسه، كنسخة مطورة انفصلت عن تنظيم القاعدة الأم، وراح يحاول بدأب وتصميم شديدين، أن يحل محل كل الجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا، التي كانت تحولت من قبل إلى نقطة استقطاب ومركز لمختلف الجماعات الجهادية، وبدت ككعبة يمم المتمردون وجوههم إليها من كل أصقاع الأرض، في مشهد لا سابق له في عصر الدول العربية الحديثة .
وأحسب أن نقطة التحول الكبرى في مسار الاضطراب الذي استشرى في سوريا على وجه التحديد، كانت تمثلت يوم 9/6/2014، حين اجتاحت داعش ثاني مدينة عراقية من حيث الأهمية، ألا وهي الموصل، ومن ثم الإعلان عن خليفة يقود دولة تمتد على رقعة جغرافية، من شرق حلب إلى غرب بغداد، الأمر الذي غير المعطيات، وأشرع الأبواب أمام سلسلة لا نهاية لها من التطورات، التي أعادت إنتاج القاعدة على هيئة تنظيم أشد حماساً، وأكثر بأساً، وأغزر حضوراً وتمكناً، وهو ما بات يعرف باسم تنظيم الدولة الإسلامية – داعش .
ومع أننا نقف اليوم أمام تفاعلات مرحلة غير مسبوقة في حياة شعوب هذه المنطقة المتسمة بعدم الاستقرار وسرعة الاشتعال، قد لا تستقر معطياتها النهائية إلى حين قد يطول، إلا أنه يمكن لنا أن نرى بوضوح، ومنذ الآن، أن دخول الإسلام السياسي على خط العنف والإرهاب بزخم لا يزال في طور التصاعد والاتساع، قد خلق واقعاً جديداً في منطقتنا، وغيّر المشهد السياسي العام إلى حد بعيد، وفتح الأبواب مرة أخرى أمام تدخل أميركي أوروبي مباشر بصيغ مختلفة، وفوق ذلك كله أن ماضي هذه المنطقة لن يكون كما هو الآن في مستقبلها القريب والبعيد .
على أنه تجدر الملاحظة أن كل هذه التطورات التي تتفاقم يوماً بعد يوم، لم تنعكس بأي صورة إيجابية على مركز الصراع التاريخي في المنطقة، ونعني به الصراع العربي الإسرائيلي، إن لم نقل أن تداعياته المباشرة، ومضاعفاته غير المباشرة، قد ألقت بظلها الأسود على القضية الفلسطينية، وعلى كفاح الشعب الفلسطيني، الذي انزاح من مركز صدارة الاهتمام العربي والدولي، وبدت أحداثه وتطوراته الخطيرة، أصغر من أن تلفت إليها الأبصار، وأدنى من غيرها على سلم الأولويات، نظراً لفداحة ما يجري من عنف هائل في المحيط المجاور .
كما يمكن أيضاً ملاحظة أن الصراع السني الشيعي، أو قل العربي الفارسي، قد احتدم أكثر من أي وقت مضى منذ نحو ألف عام، بعد أن بات كل من داعش وولاية الفقيه بمثابة سيفين مشرعين في هذا الفضاء الإسلامي الفسيح، الأمر الذي من شانه أن يعيد الاصطفافات والأولويات والتحالفات على جانبي هذا الصراع المذهبي المنذر بزلزال كبير، وهو ما قد يلقي بتبعاته السلبية على القضية الفلسطينية، في حين تواصل الأطراف المتحاربة التنازع على الأحقية بحمل راية الإسلام، فيما تبدو قضية الصراع في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الصهيوني في أخر جدول أعمال المتصارعين على الصراط المستقيم .
وبكلام موجز أخيراً، في هذه المقدمة الاستهلالية، ها نحن نرى أن المنظمات الإسلامية الخمس، وهي موضوع هذا الإصدار، تشترك في حقيقة أنها عابرة للحدود والأعراق، وتلبس كلها عباءة الإسلام، إلا أنها لم تعد متساوية في الحجم والأوزان، ولا في المقدرة على القيام بأدوار متكافئة في لعبة الصراع المفتوح على أسوء الاحتمالات، ففي الوقت الذي يسعى فيه حزب التحرير الإسلامي لأن يصنع لنفسه حضوراً مهما كان متواضعاً، تنزل حركة الإخوان المسلمين عن سدة عرشها، تُحظر وتوصف بالإرهاب، وعدم الشرعية، وفيما تواصل القاعدة الدفاع عن نفسها، وإثبات جدارتها بصعوبة، تتقدم داعش بقوة واقتدار، جنباً إلى جنب مع ولاية الفقيه التي باتت تمسك بأربع عواصم عربية، بعد أن فرضت نفسها على اليمن في آخر المطاف .
وكتابي السابع عشر هذا مرتبط بكتابين، سبق نشرهما، وهما: 1- حزب الإخوان المسلمين في الميزان، و2- الدور السياسي لحركة الإخوان المسلمين، في إطار تنظيمات وأحزاب التيار الإسلامي، تأكيداً لدورهم ومكانتهم وقيادتهم للحركة السياسية في العالم العربي، في غياب أحزاب التيار اليساري، وأحزاب التيار القومي، وأحزاب التيار الليبرالي، التي تضررت بفعل الحرب الباردة ونتائجها .
كما جاء كتابي هذا على خلفية كتابي الذي صدر العام 2013 عن ثورة الربيع العربي أدواتها وأهدافها، وحصيلتها أن الثورة ما كانت لتكون لولا توافر العامل الموضوعي المحفز للاحتجاجات والدافع لها والمتمثل بغياب الاستقلال السياسي والاقتصادي عن بعض البلدان العربية، وهيمنة اللون الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة، والطائفة، والشخص الفرد المتحكم بمفرده في إدارة الدولة، في أكثر من بلد عربي، وأخيراً بسبب غياب العدالة والطمأنينة وعدم توافر الخدمات الأساس من صحة وتعليم وضمانات اجتماعية للمحتاجين .
أما العامل الذاتي في ثورة الربيع العربي، فقد اقتصر على مؤسسات المجتمع المدني بما تحمل من مفاهيم عصرية عن الديمقراطية والتعددية واحترام مشاركة المرأة في مؤسسات صنع القرار، وبما تملك هذه المؤسسات ( مؤسسات المجتمع المدني ) من علاقات مع مؤسسات أوروبية وأميركية توفر لها الحصانة والدعم المطلوبين، ولكن بسبب غياب دور الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية، فقد استثمرت أحزاب التيار الإسلامي حصيلة الربيع العربي ونتائجه كي تكون هي صاحبة القرار، سواء عبر تفاهمها مع الأميركيين، أو عبر حصولها على الأغلبية البرلمانية كما حصل في فلسطين والعراق ومصر وتونس والمغرب، أو لامتلاكها الخبرات القتالية على أثر دورها في أفغانستان، ورغبتها في التغيير الثوري الجوهري، فاحتكمت إلى وسائل العنف واستعمال السلاح لمواجهة الاحتلال الأميركي للعراق، او لإسقاط النظم القائمة في ليبيا وسوريا واليمن، وحصيلة ذلك إخفاق ثورة الربيع العربي للآن، رغم توافر العامل الموضوعي ونضوجه لقيام الثورة، تغييراً للواقع، نحو الأفضل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن الإخفاق الفاقع يعود لعدم نضوج العامل الذاتي، وكثرة نواقصه، وعدم اكتماله، بصفته أداة الثورة ومحركها، وطالما أن العامل الذاتي كان ناقصاً، ولم تكتمل حلقات نضوجه، فقد انعكس ذلك على ضعف أدائه وعلى نتيجة أفعاله، فغياب أحزاب التيارات الثلاثة اليسارية والقومية والليبرالية وضعفها، جعل الوضع متروكاً لقوة ونفوذ أحزاب التيار الإسلامي، التي لا تؤمن لا بالتعددية ولا بالديمقراطية، ولا تملك البرامج الاقتصادية والاجتماعية الكافية، لجعلها أداة في يد عامة الناس، وهدفاً لها كي تلتحم مع الثورة وتلتف حولها، فانطبق على المواطن العربي المثل القائل أنه مثل الشخص الذي هرب من الدلف فوقع تحت المزراب، وغدت الأنظمة السابقة بعجرها وبجرها، هي أفضل حالاً مما وقع لاحقاً، من هيمنة ونفوذ وتأثير الأحزاب الإسلامية، وقيادتها للعمل السياسي وللتغيير الثوري، مسنودة بعواصم إقليمية، فحاضنة الإخوان المسلمين تركيا وقطر، وحاضنة ولاية الفقيه الدولة الإيرانية؛ ما خلق حالة من الصراع الإقليمي والدولي المباشر في منطقتنا، وعلى أرضنا، وعلى حساب دماء شعبنا وثرواته .
إذن هذا الكتاب، ليس فلسفة معرفية، بل هو إضافة سياسية تراكمية، لوضع ثورة الربيع العربي في سياقها من أجل إنتصار الديمقراطية في العالم العربي، وتحقيق الطمأنينة بلقمة العيش الكريم بالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وتحرير فلسطين .
هذا الكتاب يسلط الضوء على التنظيمات الإسلامية الخمسة العابرة للحدود، أي أنه يستهدف القوى الإسلامية الأساس القيّا تأثيراً ومكانة في العالم العربي، ولا يستهدف تنظيمات إسلامية محلية في هذا البلد العربي أو ذاك، بصرف النظر عن قوتها أو ضعفها، بل هو يستهدف التنظيمات الإسلامية الخمسة العابرة للحدود، والتي تعمل في السياسة، ولها تأثير على صنع القرار، أو على صنع الأحداث الجارية :
1- حركة الإخوان المسلمين . 2- ولاية الفقيه الإيرانية . 3- تنظيم القاعدة . 4- تنظيم الدولة الإسلامية داعش . 5- حزب التحرير الإسلامي.
لذا أرجو أن يقدم شيئاً جديداً، للقارئ، وللمكتبة العربية، وأن ينال الاهتمام كما يستحق، وفق الجهد الذي بذل وتحقق.
حمادة فراعنة *
أرضـيـة صعـود الأحـزاب الإسـلامـيـة وخـلفيتـهــا
لعل أول ظهور منظم لأول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية، كان في الربع الأول من القرن الماضي، بقيام الحركة التي صارت تعرف باسم « جماعة الإخوان المسلمين «، إذ كانت البداية في مصر، وهي قلب العالم العربي الإسلامي، ثم بعد ذلك في العديد من الدول المجاورة، إلى أن بلغ عدد فروعها نحو ثمانين فرعاً منتشرا في مختلف قارات العالم .
وقد رافق ذلك، ثم تلاه، نشوء جماعات أو منظمات وجمعيات اتخذت من الدين الإسلامي مصدراً لوجودها وتسويغ انتشارها، في البلدان العربية، ولدى عدد من الدول الإسلامية مثل: الهند، وباكستان، وترافق ذلك مع انتشار التوجهات القومية واليسارية الناشئة .
غير أن جماعة الإخوان المسلمين، التي تحولت في وقت لاحق، إلى حركة دولية لها مرجعية فكرية تنظيمية مركزية، كانت هي أكثر حركات الإسلام نجاحاً وانتشاراً عابراً للحدود، على نحو أكثر بكثير من الجماعات الإسلامية في باكستان، والوهابية في السعودية، والإمامية اليزيدية في اليمن، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وفي غير ذلك من البلدان الأخرى .
وكانت أكبر قوة دفع تلقتها حركة الإخوان المسلمين جاءت بعد الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، حين هزمت الجيوش ذات التكوين القومي الحديث، وتجلت نكبة فلسطين العام 1948 كتحد مصيري لم يتمكن معه النظام الرسمي العربي الوليد حديثاً ( جامعة الدول العربية العام 1945 ) من مواجهته بصورة فعالة؛ ما منح هذه الحركة، التي أسهم بعض أعضائها في تلك الحرب، ريح إسناد ملأت بها أشرعتها الضئيلة آنذاك .
في غضون تلك الفترة، وعلى خلفية نكبة العام 1948، نشأ حزب التحرير الإسلامي بنواته الفلسطينية، إلا أنه لم يتمكن من تعزيز حضوره، لا بين الفلسطينيين ولا بين أبناء الشعوب العربية المحيطة، إذ ظل يحافظ على وجود تنظيمي متواضع، وحضور سياسي باهت، عجز عن تحقيق قدر من النجاح الذي كانت تواصل حركة الإخوان المسلمين تحقيقه، بل وراكمته مع مرور الوقت .
وبالقدر الذي كانت فيه حركة الإخوان تعبر عن عالم السنة والجماعة في العالم الإسلامي، كانت ولاية الفقيه، ومركزها مدينة قم الإيرانية، تعبيراً موازياً عن عالم الشيعية الاثني عشرية، حيث كانت لتلك الولاية بنية مرجعية معترف بها رسمياً من قبل الدولة الإيرانية الصفوية، تعتني بالفقه، وتجمع الخُمس، وتبني المقامات والمزارات، إلا أنها لم تشتغل بالسياسة .
ظل الأمر على هذا النحو، الذي تفردت به حركة الإخوان المسلمين وحدها على ساحة العمل السياسي في العالم الإسلامي، دون أدنى منازع لها يعتد به، إلى أن حدثت الثورة الإيرانية العام 1978، بقيادة الإمام أية الله الخميني، ودلفت الحركة الشيعية إلى ميدان العمل السياسي، محمولة على رافعة إيرانية رسمية هائلة النفوذ والقوة؛ ما حوّل حزب ولاية الفقيه كما يصفها حسن نصر الله وسماها ( حزب ولاية الفقيه )، تحولت إلى مرجعية مناددة للمرجعية الإخوانية، ومنافسة لها في بعض الساحات العربية والإسلامية .
ومن المفارقات التاريخية الفارقة، أنه عندما بدأ يصعد نجم الحركة السياسية الشيعية، التي سنرمز لها تالياً باسم « ولاية الفقيه «، كان نجم جماعة الإخوان، التي كانت تلقت ضربة ساحقة، أواسط الستينيات، في عهد جمال عبد الناصر، قد أخذ يسترد بعض لمعانه، عندما استخدم الرئيس المصري، أنور السادات، هذه الجماعة المحظورة، في معركته ضد قوى اليسار والناصرية؛ ما مكّن الإخوان من بعث أنفسهم من جديد، في تزامن لافت مع صعود ولاية الفقيه .
أما المفارقة الكثرى إثارة، فهي التزامن الوثيق بين صعود ولاية الفقيه وعودة الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية، وظهور ما عرف لاحقاً باسم الجماعات الجهادية في أفغانستان، التي قامت بدعم أميركي خليجي سخي لمحاربة الاتحاد السوفيتي، الذي كان تورط في بلاد الأفغان حديثاً، ووجوه بحرب دموية قاسية، قادتها تلك الجماعات الجهادية بضراوة شديدة لسنوات عديدة لاحقة، كما أن العديد من أنظمة بلدان تلك الفترة، أعلنت تطبيق الشريعة، استجابة لصعود المد الإسلامي، كما حصل في باكستان؛ إذ أعلن ضياء الحق عن تطبيق الشريعة في 10 شباط 1979، ومن قبله جعفر نميري في السودان، وفي أعقاب سقوطه، التزمت ثورة الانقاذ التي قادها عمر البشير وحسن الترابي في تطبيق الشريعة، والرئيس المؤمن أنور السادات لم تخل توجهاته نحو هذا الخيار بعد أن أحضر قادة الإخوان من بلدان الخليج العربي وأشركهم في إدارة بعض مؤسسات الدولة، وهكذا غدا الحضور الإسلامي هو الطاغي على المشهد السياسي في تلك المرحلة .
من رحم الجماعات الأفغانية، الممولة والمسلحة جيداً، ظهرت حركة طالبان في المرحلة الأخيرة من الحرب ضد السوفيت، فخاضت صراعاً داخلياً مع الجماعات المنافسة، إلى أن استولت على أفغانستان، باستثناء إقليم في الشمال، وتسيدت المشهد السياسي كله، فحكمت وأسست أول دولة لها تحت ولاية الخليفة الملا عمر، ثم احتضنت ما كان يعرف بالمجاهدين العرب، الذين أنشأوا فيما بعد منظمة خاصة لهم، عرفت باسم « القاعدة « التي ستصبح بعد إذ أشهر منظمة إسلامية على الإطلاق، وخاصة على أثر قيام القاعدة بتوجيه أول ضربة للولايات المتحدة في عقر دارها ( 11 سبتمبر 2001 ) وظهور أخطر منظمة إرهابية في العصر الحديث، وجاء الغزو الأميركي للعراق 2003 وما رافقه من تخبط سياسي وعسكري أميركي شديد، ليعيد إحياء منظمة القاعدة من جديد بعد أن تعرضت لضربة قوية في أفغانستان، نظراً لما وجدته في بلاد الرافدين من تربة خصبة ملائمة لمقاومة الغزو والتصدي للاحتلال وتلقين أميركا درساً قوياً، كما حصل للسوفييت في أفغانستان .
بعد هذين التطورين المهمين المتتابعين في كل من أفغانستان والعراق، وانكفاء القاعدة عن آخر بقعة علنية كانت تحكم القبضة عليها العام 2008، تحولت هذه المنظمة التي جرت على نفسها تحالفاً دولياً كبيراً، إلى مجرد فكرة عقائدية، راحت تتبناها العديد من الفروع النابتة كالفطر، لا سيما في الجزيرة العربية واليمن، وشمال أفريقيا، وغيرها من الفروع الصغيرة المتناثرة في أوروبا وأسيا وغيرها .
في هذه الأثناء، كانت ولاية الفقيه تحقق حضوراً متزايداً، داخل إيران وخارجها، وتكسب مزيداً من الأرض في عدد من الدول العربية الهشة، وتلقى قبولاً شعبياً جارفاً حتى من الأوساط السنية، وتعقد ما يشبه التحالف مع حركة الإخوان المسلمين، وتقيم ما يعرف بإسم محور المقاومة والممانعة، على خلفية ظهور ما عرف أيضاً باسم محور الاعتدال العربي، فيما كانت القاعدة تواصل خروجها من المشهد الإقليمي، وتنزل تحت الأرض في انتظار اقتناص فرصة جديدة سانحة .
لقد بدا الربيع العربي في وهلته الأولى، بمثابة الحاضنة السياسية الملائمة أمام ظهور القاعدة من جديد، في ظروف انفلت فيها حبل الأمن، وضعفت فيها قوى السلطات المركزية، وارتخت قبضته على الأطراف، غير أن مطلع هذا الربيع الطويل، قبل أن يتحول إلى خريف إسلامي دام، كان مناسبة سانحة أمام الحركات الإسلامية، وفي طليعتها حركة الإخوان المسلمين، التي قطفت معظم زهور هذا الربيع، وتسيدت المشهد بعد أن تمكنت من الاستيلاء على ربيع مصر بعد استيلائها على قطاع غزة 2007، وصارت صاحبة نفوذ طاغٍ في الدول المحيطة بالدولة العربية المحورية، مصر، معتمدة في ذلك على كل من تركيا وقطر لمواصلة طريقها، وتوسيع حضورها .
ولكن لم تمض سوى فترة زمنية قصيرة حتى انقلب السحر على الساحر، عندما فشل الإخوان في إدارة مصر، وتبين للجميع مدى جوع الجماعة إلى السلطة، ورغبتها في الاستحواذ على كل المقاليد، وهو ما أدى في نهاية مطاف قصير إلى سقوط جماعة الإخوان عن عرش مصر، ومن ثم ضمور حضورها في سائر الدول المجاورة، لصالح جماعات إسلامية جديدة وقديمة، أخذت تمسك بزمام المرحلة، وتفرض نفسها كلاعب رئيس في بعض ساحات الربيع العربي، لا سيما في سوريا، وبعد ذلك في العراق وليبيا واليمن .
وهكذا، فقد كانت منظمة القاعدة، التي ظن الكثيرون أنها ذوت ودخلت في طور الاضمحلال التدريجي، أكبر الرابحين بين حركات الإسلام السياسي، باستثناء ولاية الفقيه، التي دخلت على حلبة المنافسة على النفوذ الإقليمي، وحققت مكاسب على الأرض، خصوصاً في سوريا والعراق؛ ما حالة كباش سياسي، تحول سريعاً إلى صراع مباشر، ألهب الجروح المذهبية الغائرة عميقاً في الوجدان الإسلامي العام، بما في ذلك من ثارات تاريخية نائمة بين السنة والشيعة في المشرق العربي، وغدا الصراع بين الحركات الإسلامية نفسها، كما هو بائن في اليمن بين ثلاث قوى سياسية رئيسة هي ولاية الفقيه وحركة الإخوان المسلمين والقاعدة إضافة إلى داعش .
وفي الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية الناشئة ومعها تنظيم القاعدة، المعبر عنه بجبهة النصرة، تعدّ نفسها وتبسط هيمنتها على حركة التمرد العسكري السورية، كان تنظيم داعش يطل برأسه، كنسخة مطورة انفصلت عن تنظيم القاعدة الأم، وراح يحاول بدأب وتصميم شديدين، أن يحل محل كل الجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا، التي كانت تحولت من قبل إلى نقطة استقطاب ومركز لمختلف الجماعات الجهادية، وبدت ككعبة يمم المتمردون وجوههم إليها من كل أصقاع الأرض، في مشهد لا سابق له في عصر الدول العربية الحديثة .
وأحسب أن نقطة التحول الكبرى في مسار الاضطراب الذي استشرى في سوريا على وجه التحديد، كانت تمثلت يوم 9/6/2014، حين اجتاحت داعش ثاني مدينة عراقية من حيث الأهمية، ألا وهي الموصل، ومن ثم الإعلان عن خليفة يقود دولة تمتد على رقعة جغرافية، من شرق حلب إلى غرب بغداد، الأمر الذي غير المعطيات، وأشرع الأبواب أمام سلسلة لا نهاية لها من التطورات، التي أعادت إنتاج القاعدة على هيئة تنظيم أشد حماساً، وأكثر بأساً، وأغزر حضوراً وتمكناً، وهو ما بات يعرف باسم تنظيم الدولة الإسلامية – داعش .
ومع أننا نقف اليوم أمام تفاعلات مرحلة غير مسبوقة في حياة شعوب هذه المنطقة المتسمة بعدم الاستقرار وسرعة الاشتعال، قد لا تستقر معطياتها النهائية إلى حين قد يطول، إلا أنه يمكن لنا أن نرى بوضوح، ومنذ الآن، أن دخول الإسلام السياسي على خط العنف والإرهاب بزخم لا يزال في طور التصاعد والاتساع، قد خلق واقعاً جديداً في منطقتنا، وغيّر المشهد السياسي العام إلى حد بعيد، وفتح الأبواب مرة أخرى أمام تدخل أميركي أوروبي مباشر بصيغ مختلفة، وفوق ذلك كله أن ماضي هذه المنطقة لن يكون كما هو الآن في مستقبلها القريب والبعيد .
على أنه تجدر الملاحظة أن كل هذه التطورات التي تتفاقم يوماً بعد يوم، لم تنعكس بأي صورة إيجابية على مركز الصراع التاريخي في المنطقة، ونعني به الصراع العربي الإسرائيلي، إن لم نقل أن تداعياته المباشرة، ومضاعفاته غير المباشرة، قد ألقت بظلها الأسود على القضية الفلسطينية، وعلى كفاح الشعب الفلسطيني، الذي انزاح من مركز صدارة الاهتمام العربي والدولي، وبدت أحداثه وتطوراته الخطيرة، أصغر من أن تلفت إليها الأبصار، وأدنى من غيرها على سلم الأولويات، نظراً لفداحة ما يجري من عنف هائل في المحيط المجاور .
كما يمكن أيضاً ملاحظة أن الصراع السني الشيعي، أو قل العربي الفارسي، قد احتدم أكثر من أي وقت مضى منذ نحو ألف عام، بعد أن بات كل من داعش وولاية الفقيه بمثابة سيفين مشرعين في هذا الفضاء الإسلامي الفسيح، الأمر الذي من شانه أن يعيد الاصطفافات والأولويات والتحالفات على جانبي هذا الصراع المذهبي المنذر بزلزال كبير، وهو ما قد يلقي بتبعاته السلبية على القضية الفلسطينية، في حين تواصل الأطراف المتحاربة التنازع على الأحقية بحمل راية الإسلام، فيما تبدو قضية الصراع في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الصهيوني في أخر جدول أعمال المتصارعين على الصراط المستقيم .
وبكلام موجز أخيراً، في هذه المقدمة الاستهلالية، ها نحن نرى أن المنظمات الإسلامية الخمس، وهي موضوع هذا الإصدار، تشترك في حقيقة أنها عابرة للحدود والأعراق، وتلبس كلها عباءة الإسلام، إلا أنها لم تعد متساوية في الحجم والأوزان، ولا في المقدرة على القيام بأدوار متكافئة في لعبة الصراع المفتوح على أسوء الاحتمالات، ففي الوقت الذي يسعى فيه حزب التحرير الإسلامي لأن يصنع لنفسه حضوراً مهما كان متواضعاً، تنزل حركة الإخوان المسلمين عن سدة عرشها، تُحظر وتوصف بالإرهاب، وعدم الشرعية، وفيما تواصل القاعدة الدفاع عن نفسها، وإثبات جدارتها بصعوبة، تتقدم داعش بقوة واقتدار، جنباً إلى جنب مع ولاية الفقيه التي باتت تمسك بأربع عواصم عربية، بعد أن فرضت نفسها على اليمن في آخر المطاف .