قراءة تأويلية في قصيدة "بيبي" لغازي القصيبي
رعد تغوج
جو 24 : بتجريد هذه القصيدة من واقعها الاجتماعي (السوسيولجي) ، أي بطرح الصراع العربي - الإسرائيلي "والكاتب جزء من هذا الصراع" جانباً ، ووضع القصدية الإدراكية التي تتمظهر للوهلة الأولى عند قراءة اسم (نتنياهو) بين قوسين، لا بقصد تجريف الواقع أو ردمه، إنما الترجيء الفينومنولجي حتى لحظة الحدس، ما الذي يتبقى من خطاب السخرية في هذه المقطوعة الشعرية بعد كل هذه الإجراءات؟؟؟
القصيدة مكتوبة أولا، أي أنها نص وليست منطوق يتلَمْفظ بصوتٍ شفاهي، والانتقال - على مستوى لسانيات الخطاب - من المشافهة إلى الكتابة يُخلخل العملية التواصلية برمتها، على الأقل من المنظور الياكوبسوني (رومان ياكوبسون).
فدوماً ومن منظور التواصلية التداولية يتم توتير المخطط السداسي للعملية المُفضية للانتقال من المتكلم إلى السامع، وقد جرى هذا التوتير منذ لحظة أصبحَ النصُ نصاً وكفَ عن أن يكون منطوقاً، وفي مستويات عدة < المُتكلم ، الوسط "الوسيط - النص" ، الشيفرة ، السياق ، الرسالة ، السامع>.
هنا تظهر أزمة المعنى ، فالخطاب حسب بول ريكور (نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى) ينقل المعنى الذي قصده المؤلف ، وينقل المعنى الذي بداخل الخطاب نفسه،وعندما تم تنصيص القصيدة أصبحت الوظيفة الانفعالية التي هي للمتكلم حصراً مطروحة جانباً، على الأقل من الوجهة البنيوية.
ما تبقى من الخطاب هنا هو الوظيفة المرجعية التي هي للسياق ، والوظيفة الشعرية التي هي للرسالة ، والوظيفة اللغوية الشارحة التي هي للشيفرة ، والوظيفة الإقناعية التي هي للسامع، أمَا الوظيفة التقاطعية التي للوسط (النص) فقد تم تنحيتها فينومنولجياً لأنه أصبح من صلب البنية القصيدية الشعرية للمقطوعة نفسها منذ أن كفت عن أن تكون مشافهة.
والإشكالية التي تطرح نفسها هنا هي دراسة السياق ذو الوظيفة المرجعية ، والحقيقة أن السياق مفهوم ضبابي عند ياكوبسون (والنحو الغربي اللاتيني بشكل عام) ، فاللغة العربية تعطي بُعدين للسياق ، البعد الخارجي السوسيولوجي مثل أسباب النزول مثلاً في القرآن ، والبعد البنيوي الداخلي المتمثل بتراكيب الجمل وتناقل الأدوار بين الجمل القصيرة والتبادل "النيابي" بين المسند والمسند إليه .
وهنالك أبعاد أخرى لكنها ذات خصوصيات ظرفية مثل ظاهرة الإشمام في النطق وما يُصاحبها من إيماءات وغيرها مثل ظواهر الوقف والابتدا ، وهنالك على مستوى التنصيص أبعاد مشابهة متمثلة بعلامات الترقيم والرموز المتعلقة بتقسيم الفقرات والمنمنمات التي نجدها في المخطوطات القديمة، وهذه كلها أمور ظرفية لكنها من العوامل التي تساعد في عملية إنتاج المعنى ونقل أحاسيس الكاتب ومشاعره إلى النص، ونضربُ مثلاً على ذلك بعض المخطوطات الفقهية في الأندلس قديماً ، فكما يرى المختص فإنها تحتوي على معادلات حسابية وشيفرات "سرية " لرموز البيع والشراء والتركات ، كتبت بالخط الفاسي واللغة الفاسية ، وهذه وظيفة تواصلية سياقية بين جمهور معين من الناس يتم تداول هذه النصوص بينهم.
نرى أن السياق له وظيفة أكبر من وظيفة مرجعية في اللغة العربية ، فهو خادم مطيع للمعنى أحياناً ، وأحياناً يكون ثائراً لا تقوم للنص قائمة بدونه، وصيرورة المعنى في العربية أعقدُ منها في اللغات الأخرى، ونرى من هنا أن لا إضافة جاء بها بول ريكور (بالنسبة للغة العربية) عندما تحدث عن الاستعارة مثلاً ، وأراد أن ينتقد البلاغة الأوروبية الكلاسيكية بحديثه عن "علاقة المشابهة" التي تربط بين المستعار والمستعار منه، وصراع التأويلات في فهم المجازات والمتشابهات، لأن أبسط كتب البلاغة العربية والتي تكون برسم الطلبة والتعليم تحدثت عن عشرات العلاقات التي تربط المعنى الأصلي بالمعنى المنقول ، منها علاقة الكل بالجزء وعلاقة الجزء بالكل ، بل أن الصرفيين وعلماء الفنوتيك مثل ابن جني يتحدث تحت باب "التضمين الصرفي" عن خروج التركيب "المروفولوجي" عن أصل الوضع ، مثل تضمين اسم المفعول لاسم الفاعل أو العكس، وتضمين الفعل اللازم لمعنى الفعل المتعدي ، وقد وضع الرماني في كتابه حروف المعاني فصولاً كاملة للحديث عن "خروج الحرف عن أصل الوضع".
وكما أنه لا يُوجد هنالك وجبة خالصة من الملح أو السكر، فإنه يصعب حشر المحتوى السخرية في قالب العوامل الخارجية الاجتماعية أو البنيوية الداخلية للقصيدة، فخروج جميع ألفاظ القصيدة عن أصل الوضع اللغوي الذي سِيقت له في العربية، ساهمت مع معرفة المناخ الإبستيمي في تشكيل الوعي الساخر، يقولُ القصيبي في المقاطع الأولى:
يا لــلــغُـــلام الــمُـــدلل من الجمــيلات .. أجمل
إذا مـــشى يــتــهـــادى مـهـفـهف القدِّ .. أكـحل
جــــفــونـه نــاعــمـــاتٌ والقــلب كِــسـرةُ جَندل
هذه المقاطع لا تشي بشيءٍ – إذا أشتْ – إلا بمدحٍ خالص لا سخرية ولا تهكمٍ فيه، فالمتنبي مدح المغيث ابن بشر العجلي بقصيدة يقولُ فيها :
هــام الفــؤاد بأعرابيــة سـكنت بيتـاً مـن القـلب لـم تمـدد لـه طنبا
مظلومـة القـد فـي تشـبيهه غصنـا مظلومـة الـريق فـي تشـبيهه ضربا
هذه القصيدة المدحية أدنى إلى الهجاء والسخرية – لو أردنا التقويل الذي هو من درجات التأويل – من المقاطع الأولى التي ساقها القصيبي في السخرية من نيتنياهو ، فهو يتحدثُ عن اعرابية هام بها وأحبها ، والمقامُ مقام مدحٍ وفخرٍ لا مقام عشقٍ، كذلك قصيدة البردة التي جاءت من باب الاعتذار ودخول الإسلام ، والتي قالها بين يدي رسول الله بعد أن أراد قتله لكفره كما تقول المرويات ، يقول في مطلعها :
بانت سُعاد فقلبي اليوم متبولُ ....
إن تحليل الخطاب بالنسبة إلى المقام عملية معقدة بالنسبة إلى اللغة العربية ، فهي صيرورة لا تنتهي من العوامل الخارجية والداخلية.
يقول القصيبي :
بيبي عشقناك عشقاً مــن بعضه قيس يذهـل
استخدام اسم" بيبي " وهو تصغير لنتنياهو لا يدل في بنيته على السخرية إذا جردنا القصيدة من الواقع الخارجي، فقد يكون "بيبي" صديقاً حميماً للشاعر، لكن عندما عرفنا الواقع الصراعي بين العرب وإسرائيل أدركنا مكامن السخرية، وهذا يدل على صعوبة اختزال النص ، أي نص في منهجية بنيوية أو خارجية ، فكل العوامل تساهم في إنتاج المعنى وصيرورته.
القصيدة مكتوبة أولا، أي أنها نص وليست منطوق يتلَمْفظ بصوتٍ شفاهي، والانتقال - على مستوى لسانيات الخطاب - من المشافهة إلى الكتابة يُخلخل العملية التواصلية برمتها، على الأقل من المنظور الياكوبسوني (رومان ياكوبسون).
فدوماً ومن منظور التواصلية التداولية يتم توتير المخطط السداسي للعملية المُفضية للانتقال من المتكلم إلى السامع، وقد جرى هذا التوتير منذ لحظة أصبحَ النصُ نصاً وكفَ عن أن يكون منطوقاً، وفي مستويات عدة < المُتكلم ، الوسط "الوسيط - النص" ، الشيفرة ، السياق ، الرسالة ، السامع>.
هنا تظهر أزمة المعنى ، فالخطاب حسب بول ريكور (نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى) ينقل المعنى الذي قصده المؤلف ، وينقل المعنى الذي بداخل الخطاب نفسه،وعندما تم تنصيص القصيدة أصبحت الوظيفة الانفعالية التي هي للمتكلم حصراً مطروحة جانباً، على الأقل من الوجهة البنيوية.
ما تبقى من الخطاب هنا هو الوظيفة المرجعية التي هي للسياق ، والوظيفة الشعرية التي هي للرسالة ، والوظيفة اللغوية الشارحة التي هي للشيفرة ، والوظيفة الإقناعية التي هي للسامع، أمَا الوظيفة التقاطعية التي للوسط (النص) فقد تم تنحيتها فينومنولجياً لأنه أصبح من صلب البنية القصيدية الشعرية للمقطوعة نفسها منذ أن كفت عن أن تكون مشافهة.
والإشكالية التي تطرح نفسها هنا هي دراسة السياق ذو الوظيفة المرجعية ، والحقيقة أن السياق مفهوم ضبابي عند ياكوبسون (والنحو الغربي اللاتيني بشكل عام) ، فاللغة العربية تعطي بُعدين للسياق ، البعد الخارجي السوسيولوجي مثل أسباب النزول مثلاً في القرآن ، والبعد البنيوي الداخلي المتمثل بتراكيب الجمل وتناقل الأدوار بين الجمل القصيرة والتبادل "النيابي" بين المسند والمسند إليه .
وهنالك أبعاد أخرى لكنها ذات خصوصيات ظرفية مثل ظاهرة الإشمام في النطق وما يُصاحبها من إيماءات وغيرها مثل ظواهر الوقف والابتدا ، وهنالك على مستوى التنصيص أبعاد مشابهة متمثلة بعلامات الترقيم والرموز المتعلقة بتقسيم الفقرات والمنمنمات التي نجدها في المخطوطات القديمة، وهذه كلها أمور ظرفية لكنها من العوامل التي تساعد في عملية إنتاج المعنى ونقل أحاسيس الكاتب ومشاعره إلى النص، ونضربُ مثلاً على ذلك بعض المخطوطات الفقهية في الأندلس قديماً ، فكما يرى المختص فإنها تحتوي على معادلات حسابية وشيفرات "سرية " لرموز البيع والشراء والتركات ، كتبت بالخط الفاسي واللغة الفاسية ، وهذه وظيفة تواصلية سياقية بين جمهور معين من الناس يتم تداول هذه النصوص بينهم.
نرى أن السياق له وظيفة أكبر من وظيفة مرجعية في اللغة العربية ، فهو خادم مطيع للمعنى أحياناً ، وأحياناً يكون ثائراً لا تقوم للنص قائمة بدونه، وصيرورة المعنى في العربية أعقدُ منها في اللغات الأخرى، ونرى من هنا أن لا إضافة جاء بها بول ريكور (بالنسبة للغة العربية) عندما تحدث عن الاستعارة مثلاً ، وأراد أن ينتقد البلاغة الأوروبية الكلاسيكية بحديثه عن "علاقة المشابهة" التي تربط بين المستعار والمستعار منه، وصراع التأويلات في فهم المجازات والمتشابهات، لأن أبسط كتب البلاغة العربية والتي تكون برسم الطلبة والتعليم تحدثت عن عشرات العلاقات التي تربط المعنى الأصلي بالمعنى المنقول ، منها علاقة الكل بالجزء وعلاقة الجزء بالكل ، بل أن الصرفيين وعلماء الفنوتيك مثل ابن جني يتحدث تحت باب "التضمين الصرفي" عن خروج التركيب "المروفولوجي" عن أصل الوضع ، مثل تضمين اسم المفعول لاسم الفاعل أو العكس، وتضمين الفعل اللازم لمعنى الفعل المتعدي ، وقد وضع الرماني في كتابه حروف المعاني فصولاً كاملة للحديث عن "خروج الحرف عن أصل الوضع".
وكما أنه لا يُوجد هنالك وجبة خالصة من الملح أو السكر، فإنه يصعب حشر المحتوى السخرية في قالب العوامل الخارجية الاجتماعية أو البنيوية الداخلية للقصيدة، فخروج جميع ألفاظ القصيدة عن أصل الوضع اللغوي الذي سِيقت له في العربية، ساهمت مع معرفة المناخ الإبستيمي في تشكيل الوعي الساخر، يقولُ القصيبي في المقاطع الأولى:
يا لــلــغُـــلام الــمُـــدلل من الجمــيلات .. أجمل
إذا مـــشى يــتــهـــادى مـهـفـهف القدِّ .. أكـحل
جــــفــونـه نــاعــمـــاتٌ والقــلب كِــسـرةُ جَندل
هذه المقاطع لا تشي بشيءٍ – إذا أشتْ – إلا بمدحٍ خالص لا سخرية ولا تهكمٍ فيه، فالمتنبي مدح المغيث ابن بشر العجلي بقصيدة يقولُ فيها :
هــام الفــؤاد بأعرابيــة سـكنت بيتـاً مـن القـلب لـم تمـدد لـه طنبا
مظلومـة القـد فـي تشـبيهه غصنـا مظلومـة الـريق فـي تشـبيهه ضربا
هذه القصيدة المدحية أدنى إلى الهجاء والسخرية – لو أردنا التقويل الذي هو من درجات التأويل – من المقاطع الأولى التي ساقها القصيبي في السخرية من نيتنياهو ، فهو يتحدثُ عن اعرابية هام بها وأحبها ، والمقامُ مقام مدحٍ وفخرٍ لا مقام عشقٍ، كذلك قصيدة البردة التي جاءت من باب الاعتذار ودخول الإسلام ، والتي قالها بين يدي رسول الله بعد أن أراد قتله لكفره كما تقول المرويات ، يقول في مطلعها :
بانت سُعاد فقلبي اليوم متبولُ ....
إن تحليل الخطاب بالنسبة إلى المقام عملية معقدة بالنسبة إلى اللغة العربية ، فهي صيرورة لا تنتهي من العوامل الخارجية والداخلية.
يقول القصيبي :
بيبي عشقناك عشقاً مــن بعضه قيس يذهـل
استخدام اسم" بيبي " وهو تصغير لنتنياهو لا يدل في بنيته على السخرية إذا جردنا القصيدة من الواقع الخارجي، فقد يكون "بيبي" صديقاً حميماً للشاعر، لكن عندما عرفنا الواقع الصراعي بين العرب وإسرائيل أدركنا مكامن السخرية، وهذا يدل على صعوبة اختزال النص ، أي نص في منهجية بنيوية أو خارجية ، فكل العوامل تساهم في إنتاج المعنى وصيرورته.