هذيان في الرعب والحرية
استعير عنوان هذا المقال من كتاب للأديب السوري الراحل محمد الماغوط الذي صدر عام ١٩٨٧ تحت عنوان « سأخون وطني .. هذيان في الرعب والحرية» والماغوط كما هو معروف كتب مسرحيات دريد لحام ذات الطابع النقدي السياسي . وما يدعوني الى ذلك سيل الاخبار والصور التى يحملها الأثير عن الجرائم والمجازر المتسلسلة في بلد الماغوط وكانها تأتينا من عالم اخر متخيل انتجه مخرج مهووس بأفلام الرعب والهذيان النفسي.
لم يكن الماغوط يهذي عندما كتب : بأن لكل مواطن عربي في المستقبل خمس دبابات ، واحدة الى يمينه، وواحدة الى يساره وواحدة أمامه وواحدة وراءه وواحدة فوقه ، فلقد اصبح هذيانه بعد ربع قرن من زمانه خبرا يوميا ، فالدبابات التي حبست في المخازن اربعة عقود حتى لا تطلق طلقة واحدة على الجولان المحتل ، هي اليوم فوق المواطن السوري ومن أمامه وخلفه . واعجب من مثقفين يزعمون انهم اهل فكر وموقف يدافعون عن دبابات الطاغية ومجازره بذريعة الخوف على سوريا!! وكأن امر بقاء سوريا شعبا ووطنا مرتهن باستمرار حكم آل الاسد!
يكتب رائد القصة القصيرة زكريا تامر متسائلا في مقدمته للكتاب « اي وطن هو ذلك الذي سيخونه الماغوط وعلنا وبفخر ؟ ثم يجيب : الأوطان نوعان ، أوطان مزورة وأوطان حقيقية . الأوطان المزورة أوطان الطغاة ، والأوطان الحقيقية أوطان الناس الاحرار . أوطان الطغاة لا تمنح الناس سوى القهر والذل والفاقة ، مدنها وقراها ، لها صفات القبور والسجون ولذا فان الولاء لأوطان الطغاة خيانة للإنسان بينما عصيانها والتمرد عليها إخلاص للإنسان وحقه في حياة آمنة يسودها الفرح وتخلو من الظلم والهوان.
وأستميح القارئ عذرا باقتباس المزيد من مقدمة زكريا تامر « محمد الماغوط يرصد في هذا الكتاب تجربته القاسية المرة مع الحياة في الوطن العربي وهي ليست تجربته وحده بل هي تجربة جيل بأسره ، جيل مسكين خدع منذ الصغر بالشعارات السياسية والفكرية البراقة ، ولم يكتشف انه مخدوع الا وهو يدق أبواب الشيخوخة بقبضات واهنة ، فعلم آنذاك انه قد أضاع اجمل سني عمره هباء ، واذا به لم يشيد مدنا سعيدة للإنسان انما شيد سجونا سجن فيها ، وصنع سياطا عذب بها ، وأوجد مشانق تدلى منها «. وما كتبه تامر سمعه العالم من المواطن التونسي الذي اطلق عبارته الشهيرة في التعليق على موقف ابناء جيله من ثورة شعبه ضد بن علي « لقد هرمنا... لقد هرمنا».
ويتساءل الماغوط في بطن كتابه الرائع : أليس من العار بعد كل هذا التطور العلمي والحضاري الذي حققته البشرية وبعد مئات الجامعات وآلاف المدارس التربوية والفنية والأدبية والمسرحية التي تغطي ارض الوطن العربي ان تظل لغة الحوار الوحيدة بين السلطة والمواطن هي الرفس واللبط وشد الشعر؟ ...ولو كان الماغوط حيا لترحم على ايام الرفس وشد الشعر ، فلغة الحوار المتداولة في بلده الان هي صواريخ الطائرات وقذائف المدافع والدبابات وهي الإعدامات الميدانية والذبح بالسكاكين . ثم يضيف الماغوط في (باب الاستحلاف) : أيها العرب استحلفكم بما تبقى في هذه الامة من طفولة وحب وأشجار وطيور وسحب وانهار وفراشات ..... استحلفكم بتحية العلم عند الصباح وباطراقة الجبين عند المساء ... لقد جربتم الإرهاب سنين وقرونا وها انتم ترون الى اين أودى بشعوبكم ، جربوا الحرية يوما لتروا كم هي شعوبكم كبيرة وكم هي اسرائيل صغيرة.
(الرأي)