بولا ديان: الثقافة العربية منسابة في تجليات الوعي الأرميني
يولي د. آرشاد بولا ديان اللغة العربية وآدابها اهتماماً خاصاً. وخلال مسيرته الأكاديمية والبحثية، ركز بولا ديان أستاذ الدراسات الاستشراقية في الأكاديمية الأرمينية للعلوم الوطنية، على تطورات العلاقة بين الأرمن والعرب، وتجليات تلك العلاقة وفضاءاتها وآفاقها.
يرى بولا ديان السفير الحالي لأرمينيا في الأردن أن تلك العلاقة، وصلت، انطلاقاً من القرن السابع الميلادي، إلى مراحل متقدمة، إنْ على صعيد الثقافة والفكر والأدب، أو على صعيد الطب وعلوم تطبيقية أخرى. وأشكال الدور الذي لعبته اللغة العربية والديانة الإسلامية في مد جسور التواصل بين أرمينيا والعالم العربي.
يقول المولود عام 1950 في راس العين بسوريا «إن العلاقات بين الأرمن والعرب اتسمت ثقافياً بالتميز، خصوصاً بعد حدوث تماس مباشر بين الشعب الأرميني وشعوب العالم العربي». واعتبارا من القرن السابع الميلادي لم تغب، بحسب بولا ديان، المؤلفات العربية في التاريخ والثقافة والطب وعلوم أخرى عن اهتمام المفكرين الأرمن. فقد دوّن هؤلاء، كما يكشف، معلومات بالغة الندرة والأهمية عن الخلافة الإسلامية وتاريخ نشوئها والسياسة التي اتبعتها، ويضيف هنا قائلاً «يسترعي انتباهنا في هذا المجال مفكرين أرمن في القرون الوسطى أمثال (سيبيوس) و(غيفوند) و(كريكور ماكسيدروس) وآخرين ممن تناولوا موضوعات الدين الإسلامي وغزوات الرسول الكريم والفتوح الإسلامية». وبشيءٍ من الاستدراك يقول «إن هذه المصادر النادرة الغنية بالمعلومات عن الإسلام والدولة العربية الفتية والمتوفرة بشدة في المراجع الأرمينية لم توضع بعد كاملة قيد التداول، رغم أنها تعد أولى المصادر غير العربية وأقدمها فيما يتعلق بالخلافة وأركان الديانة الإسلامية وطقوسها». ليخلص إلى أن «الثقافة العربية منسابة في تجليات الوعي الأرميني».
لغة أدب وثقافة
اللغة العربية أصبحت معروفة في الوسط الأرميني، بحسب بولا ديان، إثر الفتح العربي ولكنها مع ذلك لم تلق انتشاراً واسعاً كالذي تحقق في أنحاء أخرى من الخلافة. وذلك لأن اللغة العربية استخدمت في أرمينيا أساساً في كوسيلة اتصال مع العالم الإسلامي بغرض تعزيز العلاقات في المجالات التجارية والدبلوماسية، ولم تتحول في أوساط الحكام الأرمن إلى لغة أدب وثقافة بعكس ما حدث في دول أخرى.
يقول مسترسلاً «مما ورد من أخبار لدى الجغرافيين العرب في القرنين التاسع والعاشر الميلادي يتبين لنا أن سكان أرمينيا في عهد الأسرة الباقرادونية الحاكمة كانوا –إضافة إلى لغتهم الأم– يستخدمون العربية وكذلك الفارسية في معاملاتهم اليومية، وهناك إشارات عن وجود مؤسسات إسلامية في بعض مناطق أرمينيا، ووفق المصادر نفسها فقد كانت طبقة التجار والإقطاعيين من أكثر شرائح المجتمع استعمالاً للعربية التي انتشرت، إضافة إلى ذلك بين ممثلي الطبقة العليا من المجتمع كأسرة الباقرادونيين والزاكاريين وغيرهم، ومن آثار ذلك انتشار الأسماء العربية لدى ممثلي هذه الطبقة وانتشار الزيجات المختلطة أيضاً».
نقوش العربية
بولا ديان يذهب في هذا السياق، ووفق عديد الدراسات اللغوية، إلى أن الأرمن استخدموا مئات الكلمات العربية من بينها حوالي 700 كلمة من أصل عربي في اللغة الأدبية، «وبهذا الصدد يمكننا القول إن اللهجات الأرمينية المعاصرة مليئة بمفردات عربية، دخلت أكثريتها اللغة الأرمينية في القرون الوسطى نتيجة الاحتكاك بين الشعبين مجالات عديدة».
وبسؤاله إن كانت توجد شواهد أو نقوش أو كتابات تكشف مدى انتشار اللغة العربية في بعض مراحل التاريخ الأرميني القديم أو المعاصر، فإن بولا ديان يعيدنا هنا إلى مئات الكتابات في أرمينيا والنقوش العربية على الحجارة وغيرها، وهي كتابات وشواهد ونقوش، يعود بعضها.
يشير بولا ديان الذي عمل في معهد الاستشراق للبحوث العلمية التابع لأكاديمية العلوم الوطنية، إلى القرون الوسطى، وتؤكد بما لا يدع مجالاً لشك، على المكانة المرموقة والرفيعة التي احتلتها اللغة العربية في نفوس الشعب الأرميني وفي مختلف تجليات وعيه. ومن أقدم تلك النماذج، كما يوضح السفير كتابات (زفارتنوتس) التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي. ولهذه الكتابات، بحسبه، «أهمية بالغة ليس فقط عند التطرق إلى المسائل المتعلقة بتاريخ أرمينيا، ولكن أيضاً بما يتعلق بالبحوث اللغوية والأدبية. إضافة إلى ما سبق فقد ظهر في أرمينيا، كما يضيف، وفي الجاليات الأرمينية المنتشرة في الشرق الأدنى اهتمام بالغ تجاه المؤلفات العربية وقد تمت ترجمة عدد من المؤلفات السريانية واليونانية إلى الأرمينية عن طريق اللغة العربية».
الأرمني والنهضة العربية
يرى بولا ديان الحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة يريفان، أن من الطبيعي أن يعم استخدام اللغة العربية لدى الأرمن القاطنين في جاليات بلاد الشرق الأدنى وتحولت إلى وسيلة تواصل يومية ولغة إبداع رئيسية لبعضهم ومنهم من دوّن نتاجه باللغة العربية رافداً بذلك الحضارة العربية. ومن هؤلاء المؤرخ المشهور أبو صالح الأرمني (القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) والشيخ عبدالله الأرمني (القرن الثالث عشر الميلادي) ومكرديج الكسيح (القرن السابع عشر الميلادي) الخ. أما في العصر الحديث لعب عدة مفكرين من أصل أرمني دوراً بارزاً في النهضة العربية وخاصة في مجال الأدب والصحافة. فنجد بين أوائل المفكرين الذين ألّفوا للأدب والفكر العربي رزق الله حسون, أديب اسحق وغيرهم.
بولا ديان وفي سياق إجابته عن سؤال إن كانت تراجع أيامنا هذه اهتمام الأرمن باللغة والثقافة العربية يقول «لم يضمحل الاهتمام بالثقافة العربية وخاصة اللغة العربية لدى أوساط الأرمن، وأكبر دليل على ذلك توفر النفائس والكنوز العربية في دار المخطوطات الأرمينية (المعروفة باسم ماتيناداران) وهي مقتنيات ووثائق يربو عددها على عدة مئات ومن بينها قواميس عربية – أرمينية مدونة باستخدام الأحرف الأرمينية تعود إلى القرن الخامس عشر ويبدو أنها وضعت لغايات تعليمية ويشتمل عدد ملحوظ من هذه القواميس على العديد من الكلمات ذات الصلة بالحياة اليومية وخاصة المتعلقة بمجال التعامل التجاري».
اللغة والثقافة
وقبل ذلك، فإن الخلافة العثمانية، كما يبين السفير، لعبت بعد وصولها إلى أرمينيا، دوراً مؤثراً في ازدياد اهتمام الأرمن باللغة العربية، إذ أن معرفة سليمة باللغة العربية وقواعدها كان من المتطلبات الضرورية لاعتبار الشخص مثقفا بالمعنى الشمولي.
بولا ديان يشير إلى أن كتاب «قواعد اللغة العربية» الصادر في اسطنبول عام 1892 بقلم التربوي الأرمني الذي ولد وترعرع في اسطنبول والمدعو ريتيوس كريكوريان (المتوفي عام 1904 وعرف باسم الخوجا ريتيك) يعد بمثابة تعبير أمثل عن هذا الاهتمام.
بولا ديان يقر في سياق الإجابة عن سؤال متعلق بمأساة الشعب الأرميني يدور تلك المأساة في الحد من انتشار العربية، ويقول «إن الظروف المأساوية المعروفة التي مر بها الشعب الأرميني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أدت إلى انكفاء الاهتمام باللغة العربية عند الأرمن ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً وسرعان ما اكتسب الاهتمام باللغة العربية والبحث في علومها دفعاً جديداً أربعينيات القرن العشرين». الراي