أيام صعبة
أعادت قصة رفع أسعار المحروقات تسليط الضوء على الاتفاقية الموقعة بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، والتي نأخذ بموجبها 1.9 مليار دولار، تسلّم الأردن دفعة أولى منها، وسيتسلم أخرى الشهر الحالي، والبقية على دفعات.
موافقة صندوق النقد على الاتفاقية جاءت بعد جهود كبيرة قام بها الوزراء المعنيون، لإقناع الصندوق بمنح المملكة القرض، مقابل الالتزام ببنود محددة في الإصلاح الاقتصادي، في مقدمتها رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.
إلى الآن، كل ما هو منشور ومعلن عن الاتفاقية ما يزال في طور الكلام الفضفاض، ولم يتم الكشف عن تفاصيلها والبنود المتعلقة بها، بالرغم من أنّها على درجة من الأهمية، ليس فقط للحكومة والبرلمان، بل حتى للمواطنين الأردنيين كافة؛ إذ تمسّ هذه البنود الحياة اليومية لأغلب المواطنين، وتنعكس على كلفة حياتهم وقدرتهم على التأقلم مع هذه التحولات المفصلية.
ثمة مبررات متعددة تسوقها الحكومة للعودة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والاستعانة بمؤسسات غربية مثل الاتحاد الأوروبي، نتيجة العجز الكبير والمديونية الهائلة وأزمة السيولة المالية، مع تذبذب المساعدات العربية وعدم ثباتها، والقلق من تعليق الأزمة المالية الخطرة والعجز والمديونية على قدوم هذه المساعدات، ففي ذلك مغامرتان سياسية واقتصادية.
لكن اتفاقية على هذا القدر من الأهمية، كانت تقتضي من الحكومة قدراً كبيراً من الشفافية والوضوح، وأن تكون مدار النقاش والحوار الداخلي المعمّق، للوصول إلى تفاهمات وطنية داخلية -لا أن نكون عالةً على ما يتم تسريبه أو التلميح إليه من داخل المؤسسات المالية الدولية- حتى تكون بوصلة الدولة وسياساتها واضحة للجميع، ولا تتفاجأ الدولة ولا المواطن بأحداث غير متوقعة.
صحيح أنّ مسار اللبرلة الاقتصادي ليس حديثاً، إلاّ أنّ الاتفاقية الجديدة فيها قفزات جوهرية مفصلية في إعادة هيكلة نمط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتغيير الأسس الاقتصادية والسياسية التي تحكم البلاد، وهي تمثل "انقلاباً" كاملاً على طبيعة العلاقة "الزبونية" التي حكمت البلاد خلال العقود الماضية، وستؤدي مع تنفيذ بنودها والالتزام بفلسفتها إلى إتمام صفقة الطلاق مع تلك العلاقة، بما يتضمنه ذلك من ضرورة الدفع باتجاه نمط مختلف، ينسجم مع التحولات الاقتصادية الحالية، أو بعبارة أخرى "عقد سياسي" جديد بعد أن انتهت صلاحية العقد القائم!
النتائج السياسية والأمنية المترتبة على هذه الاتفاقية، والالتزامات المماثلة مع مؤسسات أخرى، بدأت آثارها الأولية بالاعتصامات المحدودة التي شهدتها المحافظات، وانضمام سائقي سيارات الأجرة (التكسي) في اعتصام كبير إليها؛ لكنها مرشّحة للتسخين مع الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع والخدمات، على أبواب المدارس وفصل الشتاء.
بالضرورة، تمتلك الدولة قراءات سياسية وأمنية في دوائرها الخاصة للأبعاد والتداعيات المترتبة على تطبيق بنود هذه الاتفاقية. لكن مسألة السيطرة على ردود الأفعال والانعكاسات المترتبة على هذه السياسات ليس بالأمر السهل. والتوقعات والاحتمالات ستكون عرضة لمفاجآت غير متوقعة، ولمسار مهزوز في العلاقة بين الدولة والمجتمع.
بلا شكّ، هنالك حديث طويل وعريض داخل مؤسسات القرار منذ أعوام عن الأزمة الاقتصادية، وضرورة تخليص الموازنة من عبء العجز والدعم. لكن هذا الحديث لم يترجم إلى تفاهمات وطنية تضع حزمة متكاملة لبرنامج اقتصادي، وتعيد هيكلة العلاقة الاقتصادية والسياسية على أساسه، بل ما تزال القرارات والسياسات مبنية على مبدأ جس النبض وردود الفعل، وكأنّنا في لعبة "القط والفأر"!
(الغد)